سـبـاق.. !

 

د. بسام الخالد

 

جمعتني جلسة مع بعض أدعياء الثقافة الذين يزيّنون واجهات صالوناتهم بمكتبات فخمة تضم نفائس من أفخم ما أنتجته المطابع من تجليد فني لكتب لا يهمّ الذين يقتنوها إلاّ شكلها الخارجي.

وبينما أخذ المضيف ناصية الحديث عن الثقافة وأزمة الكتاب وانحساره في ظل هذه الأزمة التي تمر بالبلد والتفات المثقفين إلى القراءة الإلكترونية بعد ثورة (النت) الطاغية، انبرى أحد الحضور، بعد أن رفع نظارتيه شبه الطبيتين، عن عينيه قائلاً: أتدرون.. لقد باتت الكتب لا مضمون لها هذه الأيام، الأمر الذي اضطرني لزيارة الأصدقاء والبحث عمّا لديهم من أمهات الكتب لأعيد قراءتها مجدداً، ونتيجة استعارتي للكتب وضرورة إعادتها سريعاً إلى أصحابها، فإنني أقرأ كتابين إلى ثلاثة كتب في اليوم الواحد، فردّ آخر كمن فاجأه الكلام: فقط؟!.. لقد مرّت عليّ فترة كنت ألتهم فيها أربعة كتب، وربما خمسة في يوم واحد، لكن ليست من الكتب الموسوعية!

وعندما تيقّنت من ادّعاء هذين الدجّالَيْن وكذبهما قلت لهما سأقصّ عليكما حكاية من ضيعتنا علّها تكون مفيدة في جلستنا هذه، فوجئ الجميع بتغييري لمجرى الحديث وانشدّوا إليّ صاغين، قلت: دعونا من الكتب والثقافة الآن، ما رأيكم بأن نسمع حكاية “أبو إبراهيم” ؟

قال المضيف: من هو أبو إبراهيم هذا ؟!

قلت: أبو إبراهيم بطل من أبطال أيام زمان، مصارع ويحمل الأثقال، ومقاتل شرس، قارع العثمانيين والفرنسيين وخدم في الجيش الإنكليزي، وبقي يستجرُّ ذكرياته الهرمة لحين وفاته عن عمر ناهز التسعين، وكان يلوم الزمن أفقده رونق حكاياته وفطريتها وأمات في نفسه هواية القص التي كان بطلها أمام براءة الناس الذين يتمتعون بحكاياته وهم في أتم الانسجام ومن دون مناقشة.

قال آخر: وما هي قصته؟!

قلت: كان أبو إبراهيم يتباهى أمام زميله “أبو صالح” ذات يوم ليثبت له بطولاته، فحكى له القصة التالية:

«عندما كنت شاباً، يعني أيام خدمتي في الجيش الإنكليزي، أرسلوني إلى “مالطا”، وهناك ضربت رقيباً إنكليزياً فسجنوني، كان السجن قرب البحر، لكني تمكنت من خلع أبواب الزنزانة والهروب خلسة على ظهر أحد المراكب إلى الإسكندرية، ومنها إلى اللاذقية ثم إلى طرطوس، وبينما كنت أتمشّى على شاطئ البحر لمحت جمهرة من الناس، اقتربت وسألت أحد الموجودين عن سرّ الجمهرة، فأعلمني أن ثمة سباقاً للسباحة يشارك فيه أبطال دوليّون لقطع المسافة إلى جزيرة “أرواد”.. اقتربت من المسؤولين عن السباق وطلبت منهم المشاركة، لكنهم أفادوني أن السباق قد بدأ، رجوتهم أن يسمحوا لي اللحاق بالأبطال لأنني سأسبقهم حتماً، وبذلك أحقق رقماً قياسياً لبلدي، فسمحوا لي.. خلعت ثيابي.. و “وينك يا بحر”.. غطست في الماء بعد أن حبستً أنفاسي، وقررت السباحة تحت الماء حتى أصبح في مقدمة جميع السبّاحين، أذكر وقتها أنني سبحت طويلاً من دون أن آخذ نفَسَاً واحداً، وبعد مسافة لا أدري كم هي، اصطدم رأسي بما يشبه الصخرة، رفعت رأسي فوق الماء، ففوجئت بلوحة كُتب عليها: (قبرص ترحب بكم)، فتصور كم سبحت ؟!

لم يظهر على أبي صالح أية ردة فعل.. أخرج كيس تبغه ولف سيجارة دخان عربي وتنهد قائلاً: إيه، الله يرحم أيام زمان.. أنت تعلم يا أبا إبراهيم أنني شاركت في الحرب العالمية.. في تلك الفترة كنت ضائعاً في صحراء (العلمين) بمصر، وكنت أقود سيارة جيب عسكرية، وبعد مسيرة مسافة في الصحراء نفد الوقود وكانت الطائرات المعادية تحلق فوقي وخشيت أن تقصفني بقنابلها، فما العمل والصحراء ليس فيها “بنزين”؟!

تلفتٌّ حولي فشاهدت أحد مضارب البدو، اتجهت إليهم وسألتهم إن كان لديهم بعض “البنزين” فأجابوني: بنزين لا يوجد، لدينا حليب إذا رغبت.. قلت في نفسي: حليب.. جرّبه يا ولد فقد ينفع، ملأت صفيحة من الحليب وأفرغتها في خزان الوقود، أدرت المحرك، فدار بسرعة وطراوة، مشيت فأسرعت السيارة، وبعد مسافة قصيرة يا أبا إبراهيم، شعرت بصوت غير طبيعي ينطلق من عادم السيارة، نظرت ورائي فإذا بأقراص الجبنة تتطاير من “الاشكمان”.. هل تصدق ذلك؟!

وبلحظة سريعة أجابه أبو إبراهيم، (صادق يا أبا صالح.. صادق)!

نظر “المثقفان” إليّ نظرة لا تخلو من العتاب: ماذا تقصد من وراء هذه القصة؟!

قلت: لا شيء، فقط تذكرت أيام زمان وكيف كانت العلاقات بين الناس، وعاد بي الحنين إلى السهرات الشتائية التي كانت تجمع الأحبة، حتى الكذب الأبيض، كان له دور إيجابي في حياتنا.. عذراً، لقد قاطعتكما.. ما رأيكما لو تُكملا السباق ؟!

(خاص لموقع سيرياهوم نيوز)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

آن الآوان لتعديل قانون الانتخابات؟

  علي عبود للمرة الأولى يفعلها مجلس الشعب ويقترح فقدان عضوية ثلاثة فائزين بالدور التشريعي الرابع لفقدانهم أحد شروط العضوية في المجلس، وهو حملهم لجنسية ...