نبيه البرجي
“كانت اسرائيل بحاجة الى تلك الصدمة لكي تكتشف أن الزمن لم يتوقف لا عام 1948 ولا عام 1956، ولا عام 1967 ولا عام 1973، وأن المعادلات الاستراتيجية لا يمكن أن تكون معادلات الهية”.
هذا رأي الكاتبة اليهودية الأميركية ماشا جيسن، لتلاحظ أن من الصعب، بل من المستحيل، أن تستطيع الدولة العبرية تجاوز الصدمة البنيوية التي أحدثتها عملية “طوفان الأقصى” في الواقع السياسي والعسكري.
أثناء الحرب الكورية، بعث الجنرال دوغلاس ماك آرثر، وهو بطل الباسيفيك، ببرقية الى هاري ترومان يحثه فيها على توجيه ضربة نووية للقوات الصينية والشيوعية، التي كانت تتقدم في شبه الجزيرة على نحو صاعق. في الحال، استدعاه الرئيس الأميركي وأحل محله الجنرال ماتيو ريدغواي، خشية أن تتغلغل اللوثة النووية في رؤوس الجنرال، ليقول افريل هاريمان ان أميركا “لا تستطيع أن تتقبل فكرة ألجنرالات ـ الآلهة”.
هكذا ينظر “الاسرائيليون” الى الجنرالات كظواهر ما فوق البشرية، وان كانت الانتصارات التي حققوها سببها الوهن العربي، وفي كل وجوه الحياة، ودائماً بفعل تلك الأنظمة الرثة التي طالما راهنت على الترسبات الايديولوجية والقبلية، في ادارة الدول وفي ادارة المجتمعات. حال قادة الاستخبارات حال الجنرالات. الحروب ضد العرب أقرب ما تكون برقصة الفالس على ارصفة البيفرلي هيلز.
هذا ما ظهر بشكل جليّ في حرب غزة. النقص الكارثي في الرؤية وفي التخطيط وفي الأداء. الجنرال موشي كابلنسكي، القائد السابق للواء غولاني ـ النواة الصلبة “للجيش الاسرائيلي” ـ صرح بأن هذا اللواء فقد ربع قوته بين قتيل وجريح.
وزير الدفاع يوآف غالانت قال: “أنا مسؤول عن التكلفة (البشرية)، وعن الأخطاء الفادحة التي وقعت”، بسبب العمى العسكري والعمى الاستخباراتي في منطقة مقفلة وخالية من أي تضاريس طبيعية، فضلاً عن الامكانات المحدودة لدى المقاتلين، قياساً على الامكانات الاسطورية بيد الضباط والجنود “الاسرائيليين”.
أخطاء ميدانية لا ترتكبها حتى الجيوش البدائية. بطبيعة الحال “للموساد” عملاؤه الذين مهمتهم اجراء مسح شامل لكل نقاط، ولكل مكامن الخطر في القطاع، استكمالاً لما تقوم به طائرات الاستطلاع المتطورة، وكذلك الأقمار الصناعية بما في ذلك الأقمار الأميركية، ما أثار اسئلة المعلقين حول السبب في ذلك الأداء القاتل. هل هو الترهل أم هو الغرور أم هو الاستهتار؟ اذا أخذنا بالاعتبار اعطاء التكنولوجيا الأولوية على العنصر البشري، وعلى أساس أن سلاحي الطيران والمدرعات كافيان لازالة كل العرب من الوجود.
المسألة لا تقتصر على المعلقين “الاسرائيليين”. أيضاً معلقون أميركيون وأوروبيون ابدوا استغربهم لصمود مقاتلي الفصائل، الذين يخوضون معارك ضارية بالبطون الخاوية وبين جثث ذويهم، ضد قوات مدججة بالامكانات التكنولوجية الهائلة، وبتغطية جوية ضاربة تلاحق حتى القطط (الاندبندنت ).
الاستغراب الأكثر كيف ان “الاسرائيليين” يقاتلون عشوائياً، وأحياناً يقتلون زملاءهم أو يقتلون الاسرى، في حين أن الفلسطينيين، وفي ظروف مستحيلة، يفكرون بهدوء ويخططون وينصبون الكمائن، التي ألحقت بالمهاجمين خسائر وضعت القادة السياسيين في حال من الصدمة، التي تظهر مدى الهشاشة في ذلك العقل الاسبارطي.
هل انعكست التشققات داخل المؤسسة السياسية، وبتلك الصورة الكارثية على المؤسسة العسكرية. الجنود فوجئوا بكل شيء، كما حدث لهم في جنوب لبنان. تذكرون كيف أن المقاومة آنذاك، تنبهت الى الخطر الالكتروني، واقامت شبكة تقليدية تحت الأرض، لترتفع الأصوات، وكان قرار مجلس الوزراء الشهير (الذي قضى ضمناً بالطلب من مخفر حارة حريك توقيف السيد حسن نصرالله)، مع التغاضي عن تركيب “الاسرائيليين” أجهزة للرصد والتجسس بامكانها اختراق حتى هياكلنا العظمية.
مثلما الصواريخ باتت في يد الجميع، كذلك التقنيات الالكترونية (وتقنيات احتوائها). هذا ما أغفله “الاسرائيليون”، الذين يبدو أن العدوى العربية (موت الزمن) انتقلت اليهم.
نعود الى ماشا جيسن “ماذا بعد سقوط الخرافة العسكرية والاستخباراتية” ؟ تسأل وتجيب “ضعوا على أكتافكم رؤوساً غير هذه الرؤوس”!!!
(سيرياهوم نيوز ٣-الديار)