آخر الأخبار
الرئيسية » الأخبار المحلية » سقوط قانون قيصر… وبداية اللعبة الجديدة في سوريا 

سقوط قانون قيصر… وبداية اللعبة الجديدة في سوريا 

 

 

د. سلمان ريا

 

يشكّل إدراج بند إلغاء قانون قيصر ضمن النسخة النهائية لموازنة وزارة الدفاع الأميركية حدثاً تاريخياً يتجاوز كونه خطوة تشريعية، إذ يمثل إعادة صياغة لمقاربة واشنطن للملف السوري على نحو تدريجي، من الخنق الاقتصادي الشامل إلى الرقابة السياسية الموجهة. فالقانون الذي ظلّ لسنوات أداة الضغط الأشد على الاقتصاد السوري والمواطنين، يُطوى اليوم بشكل نهائي، مع الحفاظ على أدوات متابعة دقيقة تتيح للولايات المتحدة تقييم التقدم السوري على مدى أربع سنوات، دون فرض تلقائي للعقوبات.

 

الإلغاء الذي طال انتظاره جاء بصيغة غير مشروطة، تخلّت عن آلية الشروط الصارمة السابقة، لتحلّ محلها صياغة جديدة تعتمد على تقديم الإدارة الأميركية لتقارير رئاسية متتابعة إلى الكونغرس: أول تقرير بعد تسعين يوماً من نفاذ القانون، ثم كل مئة وثمانين يوماً لمدة أربع سنوات. تشمل هذه التقارير متابعة تقدم الحكومة السورية في مكافحة الإرهاب، ضبط الحدود، منع أي أعمال عسكرية غير مبررة ضد دول الجوار، تعزيز حماية الأقليات، مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، الحدّ من انتشار المخدرات وخاصة الكبتاغون، ومراقبة عمل المؤسسات الأمنية والإدارية بما يضمن استقرار المناطق. ولم يمنح القانون الجديد الكونغرس أو الإدارة الأميركية صلاحيات جديدة، بل ترك للرئيس الأميركي “حق النظر” في فرض عقوبات محددة وفق الصلاحيات التقليدية، ما يجعل الإلغاء فعلياً وغير خاضع للشروط السابقة.

 

على المستوى الاقتصادي، يحمل رفع قيصر آثاراً ملموسة. فالقيود القانونية التي كانت تمنع أي شركة أو مستثمر أجنبي من التعامل مع السوق السورية ستتراجع، ما يتيح استئناف مشاريع كانت متوقفة سنوات طويلة في قطاعات الطاقة، البنية التحتية، الصحة، والصناعة. كما يُتوقع تحسن حركة الاستيراد والتوريد، وانخفاض المخاطر المصرفية المرتبطة بالتحويلات الدولية. ومن المرجح أن يسهم هذا الانفتاح التدريجي في تخفيف الضغط على الاقتصاد، وإن كان الأثر الفعلي محدوداً على المدى القصير، نظراً لضعف البنية التحتية والمصرفية والحاجة إلى إصلاحات تشريعية وإدارية.

 

غير أن القرار لا يعني رفع جميع العقوبات الأميركية، فهناك منظومة أخرى قائمة لأسباب سياسية وأمنية مختلفة. كما أن المراقبة المستمرة من خلال التقارير نصف السنوية تُبقي سوريا تحت سقف سياسي واضح، ما يحول الإلغاء إلى أداة مرنة للضغط بدل أن يكون مجرد رفع للعقوبات. من هذا المنطلق، يتيح القرار فرصة لإعادة الانخراط الاقتصادي والسياسي مع العالم، لكنه يضع مسؤولية كبيرة على الحكومة السورية لإدارة المرحلة بحكمة واستثمار الانفتاح الجزئي لصالح الاقتصاد والمواطنين.

 

سياسياً، يعكس القرار الأميركي تحولاً في استراتيجية واشنطن: الابتعاد عن أدوات الخنق القصوى التي أثبتت محدودية أثرها على التغيير السياسي، واعتماد متابعة دقيقة توازن بين الضغط والمكافأة. وفي الوقت ذاته، يرسل القرار رسائل مهمة للدول الإقليمية بأن العلاقة مع سوريا يمكن إعادة هندستها تدريجياً دون العودة إلى العقوبات الشاملة، ما قد يفتح الباب أمام مبادرات اقتصادية وسياسية مؤجلة، شرط توفر الاستقرار الداخلي والإقليمي.

 

هذا التحول التشريعي يعكس كذلك إعادة تقييم داخل واشنطن لأداة العقوبات الشاملة، بعد أن تبين للإدارة الأميركية أن الضغط الاقتصادي الأقصى لم يعد ينتج تقدماً سياسياً، وأن كلفته الإنسانية أكبر من قدرته على التأثير في توازنات السلطة داخل سوريا. وبذلك تنتقل الولايات المتحدة من مرحلة الخنق الاقتصادي إلى مرحلة الإدارة السياسية للملف السوري، من دون أن تتخلى تماماً عن أدوات النفوذ التي راكمتها خلال العقد الماضي.

 

باختصار، سقوط قيصر ليس نهاية المعاناة الاقتصادية فوراً، لكنه بداية لعبة جديدة: مرحلة تتسم بالانفتاح المشروط والرقابة المستمرة، توفر فرصاً حقيقية للتنمية والاستثمار، وتضع أمام السوريين اختباراً حقيقياً لتحويل هذه الفرصة إلى مكاسب ملموسة، بعيداً عن المبالغات العاطفية، وبعيداً عن سياسات الضغط التي أنهكت البلاد لعقود. إنها لحظة فارقة، تمنح البلاد نافذة للتنفس الاقتصادي والسياسي، لكنها تتطلب إدراكاً واضحاً لطبيعة التغيير، وعملاً حكيماً على إدارة الملفات الاقتصادية والسياسية لتحقيق الاستفادة القصوى. وبينما تتغير قواعد اللعبة تدريجياً، يبقى السؤال الحقيقي في يد السوريين: كيف يمكن تحويل هذا الانفراج إلى فرصة لبناء اقتصاد منتج، وإلى تخفيف معاناة الناس بعيداً عن المبالغات، وبعيداً أيضاً عن العداءات التي أنهكت البلاد طويلاً؟

(أخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان… سوريا من القهر إلى العدالة وصون الكرامة

تحتفل سوريا اليوم لأول مرة في تاريخها باليوم العالمي لحقوق الإنسان، في مناسبة تُعيد إلى الأذهان أحد أبرز التعهدات الإنسانية في التاريخ، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ...