باسل علي الخطيب
وكان أن مرت عشر سنين…… بقية الله على الارض…. ولدته أمي في بيتنا صباحاً…. أخي إبراهيم كان أصغرنا، أتى جدي بعد ساعات من ولادته، جدي، والد والدي، كان قد رأى مناماً عنه في الليلة الماضية……. ماذا أسميتموه؟ كان سؤاله الأول عندما دخل بيتنا، تلعثمت جدتي، أم أمي….قالت له: سمه أنت يا أبو علي، قال جدي سيكون اسمه إبراهيم، و سيكون إن شاء الله بضعة من إبراهيم إياه…. كبر إبراهيم، و كان حقاً بضعة من إبراهيم، أحبه أبواي أكثر منا قليلاً، كان له مكانة خاصة جداً في قلبيهما، و لم يكن لهم في ذلك منة، فهو استحق تلك المكانة، إن كنا أنا و أخوتي اعترضنا بضعة مرات على ما يقوله والدانا، أو تململنا أحياناً، فهو لم يقل لهما حتى افٍ ولا مرة واحدة…. كبر إبراهيم و كان السند و الرفيق لأبي و أمي عندما كان كل منا مغتربا” يلاحق دراسته….. قرر أخي أن ينتسب إلى الكلية الحربية، لم نفهم سبب قراره هذا، مع أن معدله في الشهادة الثانوية كان يسمح له بدخول الكثير من الاختصاصات الجامعية الجيدة…. رافقته عندما ذهب إلى حمص لتقديم أوراقه للكلية الحربية، و قبيل لحظات من تقديم الأوراق، قلت له ألن تعدل عن قرارك يا أخي؟ وضع يده على كتفي، و نظر إلي بابتسامته التي تشق نياط القلب، ستفهم يوماً ما يا أخي…. كان لأخي محيا أقل ما يقال عنه أنه رحماني، كانت له عينان تغوصان في قيعان كيانك، فتسلبانك كل كيانك…. كبر إبراهيم، و كان في كلمة و فعل، كان يثبت أنه إبراهيم، كان يقضي بعض إجازته في بيتي، في المرتين اللتين رزقني اللّه بأبناء، كان كل مرة يدخل الغرفة حيث ينام ابني المولود حديثاً و يغلق الباب من خلفه، و يبقى و إياه لوحدهما نصف ساعة، أنا أكاد أجزم أن ذاك الصلاح في أولادي سببه تلك الجلسة معهم من قبل أخي…. كان في كل مرة يدخل بيتي أشعر أن البركة قد حلت، أخبرتني زوجتي ذات مرة أنه عندما يكون إبراهيم في البيت كانت تشعر بكل الأمان…… كان سمحاً إلى تلك الدرجة التي تجعلك تشعر بالخجل، كان طيباً إلى تلك الدرجة أن الطيبة تخجل منه…. كبر إبراهيم و تزوج، كنت بالصدفة في دمشق عندما ولدت ابنته، كنت أول من يحملها، ماذا ستسميها يا أخي؟ نظر و قال ستكون مريم، إذاً لتكن مريم، عينا مريم كانت عيني والدها و مازلت…… أخبرونا رفاقه أنه ذات مرة، ولم يكن عنده خبز ليتناول طعامه، أنه لم يرض أن يأخذ من حصة العساكر من الخبز، وسار على قدميه 3 كم لكي يشتري الخبز….. لم يدخل جوف أخي ولو لقمة حرام واحدة، ولم يخرج من فمه ولو كلمة حرام واحدة….. أخبرونا رفاقه أنه وأكثر من مرة كان يعطي بعض العساكر الفقراء، الذين تحت امرته المال لكي يستطيعوا الذهاب في إجازة لعند اهاليهم…. نشبت الحرب، في تشرين الاول من عام 2011 كان أخي آخر مرة يأتي فيها إلى القرية، آتى لكي يساعدنا في موسم الزيتون، و مرة أخرى أثبت أنه أفضلنا، يعمل من دون كلل أو ملل و من دون تأفف….. قال لأمي ذات يوم من ذاك الخريف: اسمعي يا امي، تعلمي كيف يجب أن تتكلمي إن استشهدت، عندما يجري معك التلفزيون مقابلة…. قالت له أمي اسكت، أذكر وقتها أنني كدت أسمع دقات قلب أمي…. كان أخي و كأنه يستعجل العودة إلى ذاك النور…. تم نقل أخي و كتيبته إلى إدلب، خاضوا معركتهم الاولى في أرمناز، أصيب أحد عناصر سرية أخي في تلك المعركة، و كان من دير الزور، كان وابل النيران من قبل الإرهابيين عنيفاً، صرخ ذاك الشاب، اتركوني يا سيدي، اندفع أخي بعد أن طلب من عناصره تغطيته، و حمل الجندي الجريح و عاد به، أخي لم يترك أحداً من جنوده خلفه في كل معاركه…. أخبرني أحد الملازمين الذي كان تحت أمرته، أن أخي إبراهيم كان يقول لهم قبل كل اقتحام: أنا من سيتقدم أولاً، أخبرني ذاك الملازم إياه أن الجنود الذين كانوا تحت أمرته كانوا يتقدمونه قصداً بعد أن سمعوا كلامه هذا….. أولئك الجنود كانوا من الحسكة و درعا و حمص و حلب و اللاذقية و طرطوس و السويداء و الرقة و دمشق…… حكى لي أحد رفاقه لاحقاً، أنه قد قال لأخي ابراهيم، توخى الحذر سيدي، أنت تندفع وتخاطر كثيراً، اجابه أخي: لم يحن آجلي بعد، وعندما سيحين ،سأخبرك، وانت من ستخبر اخوتي قصتي…. خاض أخي معاركاً في كل مناطق إدلب، و استقر به الأمر أن استلم حاجزاً في منطقة سرمين بالقرب من إدلب، ذات مرة اتصل بي أخي و قال لي شاهدوني اليوم على الأخبار على المحطة(الفلانية)… تجمعنا جميعاً، كان تقريراً عن عملية خاصة نفذها أخي و عناصره أدت إلى مقتل ثلاثة من قادة تنظيم القاعدة الخطرين…. أخي ظهر بوجهه في المقابلة، تحدث بكل عفوية، فرحنا أننا رأيناه، فرحنا بما عمل، و لكن لم ندرك إلا لاحقاً، أن ذلك كان خطأ…… من بعد تلك المقابلة صار إعلامنا يجري المقابلات مع الضباط و ظهورهم للكاميرا…. تم تكليف أخي بمهمة أن يقم حاجزاً عند منطقة اسمها ترنبة، حيث يوجد تقاطع طرق مهم، عرف الإرهابيون أن الرائد إبراهيم علي الخطيب في ذاك المكان، فشنوا هجوماً بأعداد تقارب المئات، قاتل أخي و رفاقه، قاتلوا رغم علمهم أن المعركة خاسرة، و أن عديد عدوهم يفوقهم بأضعاف…. في خضم المعركة، استشهد الشاب الذي كان خلف المدفع الرشاش، ولم يستلم المدفع احد، اندفع أخي نحو العربة التي تحمل الرشاش، لقمه وبدأ إطلاق النار، كان كل جسده في مرمى نيران الارهابيين، ومع هذا استمر يطلق النار، وغطى بنيرانه على انسحاب رفاقه إلى موقع أفضل…. استمر على هذه الحال عدة دقائق، حتى أصابت رصاصة قناص عنق أخي تحت ذقنه….. أخبرني رفيقه اعلاه، أن اخي قال له صبيحة يوم استشهاده، اليوم هو اليوم، ابراهيم استشهد مساء ذاك اليوم… لا أعرف على أي صورة أغمضت عيناي اخي إغماضتها الأخيرة، هل هي على صورة مريم التي كانت تبلغ آنذاك قرابة العامين، ام على ابتسامة امي، أم على وجه أبي… استشهد اخي بتاريخ 2012-11-1، احتفلت المئات من صفحات الارهابيين بذلك، كيف لا وقد قتلوا الرائد ابراهيم علي الخطيب…. كنا في المشفى العسكري عندما وصل جثمان أخي، رأيته، كان نحيفا”جدا”، ولحيته طويلة، وقد كبر في العمر عدة سنوات، ولكن كانت شفتاه تفتران عن ابتسامة صغيرة وجميلة، عندها عرفت على اي صورة أخيرة اغلق أخي عيناه، عندها فهمت لماذا قال لي أخي آنذاك، ستفهم يوما” ما يا أخي….. لم يغب أخي عن منامات أبي وامي، وخاصة أمي، يأتيهما مرتديا” بدلة التخرج، كل عام وانتم أبي وأمي…. ذات يوم فجراً عام 2019، تعرضت لحادث سيارة على طريق حمص، قبيل الحادث بساعات وفي بيت اهلي في القرية، لم تكن أمي تستطيع النوم، كان كأن قلبها يخبرها ان هناك خطب ما، وعندما غفت لدقائق وقد هدها النعاس، أتاها ابراهيم في المنام يطرق باب البيت، وعندما فتحت له الباب، قال لها: نامي يا أمي واطمئني، أخي باسل بخير….. في تلك الحادثة، قلبت بي السيارة ثلاث قلبات، وكأن قوة ما ثبتتني في مكاني، فلم يرتطم راسي بشيء، وانقضى الحادث على بعض الرضوض، ذاك كان طيف أخي، يمسك بي من كتفي…. لاتخف يا أخي…. السلام عليك يا اخي ابراهيم، السلام عليك يوم ولدت، السلام عليك يوم ارتقيت شهيدا”، السلام عليك ياسيدي، السلام عليك أيها التقي النقي، اشفع لنا يا أخي في عليائك، رحمنا الله برحمتك، السلام عليكم جميعا”، شهداء جبال التين والزيتون…… وكان أن عاد بعض بعض ذاك النور إلى ذاك النور كله…..
(سيرياهوم نيوز6-صفحة الكاتب1-11-2022)