يشكل انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، خلفية لـ «صمت» (إنتاج «سبَبَ للمسرح»). يشرّح العرض المسرحي الذي يحمل توقيع المخرج الكويتي المعروف، واقع المدن العربية، من العاصمة اللبنانية، مروراً بحلب، والبصرة وصولاً إلى غزة «التي نشهد على إبادتها بالبث الحي». موعدنا الليلة مع حلا عمران على خشبة «دوّار الشمس»
يعود المخرج المسرحي الكويتي، سليمان البسام إلى بيروت، في «صمت» (أداء الممثلة السورية حلا عمران ــــ عزف: عبد قبيسي، وعلي حوت)، ليكون العرض المسرحي بمثابة إنتاج جمالي عالي المستوى، يستشرف معالم المسرح السياسي في المنطقة العربية. يُقدم العرض، للّيلة الثانية على التوالي، على خشبة مسرح «دوار الشمس»، ضمن برمجة مهرجان «ربيع بيروت» الذي تنظّمه «مؤسسة سمير قصير» للسنة السادسة عشرة على التوالي. يشكل انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، خلفية لـ «صمت» (إنتاج «سبَبَ للمسرح») الذي يشرّح واقع المدن العربية، من بيروت، مروراً بحلب، والبصرة، وغيرها، وصولاً إلى غزة «التي نشهد على إبادتها بالبث الحي». العرض أشبه بحفلة خراب تعكس واقع المدينة المنكوبة بعد الرابع من آب «ويمرّ على التداعيات الكارثية لأضخم انفجار غير نووي في التاريخ، ونواتج تهميش الإنسان والمجتمع والبيئة». كل ذلك ضمن شكل إخراجي معاصر، يمزج النصوص الحرّة، وحركة الجسد المثقل، والصوت البشري المفجوع، والموسيقى الحيّة التراجيدية.
يعتمد المخرج الكويتي سليمان البسام في أعماله المسرحية على الاقتصاد بالأدوات السينوغرافية المسرحية (سينوغرافيا وتصميم الإضاءة للفرنسي إيريك سواييه)، المترافقة مع التكثيف على صعيد اللغة. تتوسط الفنانة السورية حلا عمران، المسرح، ويحيطها من الشمال واليمين، كل من العازفَين علي حوت، وعبد قبيسي. يخيّل إلينا، أنّ حلا عمران مدينة مكثفة بأحاسيس الموت، والحزن، والحب، والعازفان من منصتيهما، شاهدان على تقلباتها وتحولاتها السياسية، والعسكرية، والأيديولوجية، والعاطفية. تناجي حلا عمران «الصمت»، فيزداد وقع الصوت وحدّة الغناء والعزف. تنعدم الأدوات التقليدية للمسرح (الحدث، السرد، الشخصيات)، ويمثل «الصمت» بحسب ما يقول سليمان البسام، لنا، «استعارةً لشخصية المفكر والفنان والإنسان الذي يختار الصمت المطلق، كشكل للتعبير، ومحاولة لتخيّل ماذا يمكن أن نكتشف إن تخلّينا عن الأدوات التقليدية المعهودة».
من العرض
في بداية العرض، يطالعنا المخرج الكويتي، ببوح شفوي، يدعونا إلى اعتبار مفردة «الصمت» كأداة مقاومة، ويشير إلى الكراسي الفارغة إلى يمين وشمال الخشبة، للجلوس عليها، متى ما شعر أحد من الجمهور، بضرورة ذلك، وخصوصاً أنّ كتابة «الصمت لا تكتمل دوننا»، فنحن (الجمهور) جزء من العرض، يشركنا المخرج فيه بأسلوب بريخيتي يكسر فيه الجدار الرابع معنا. العرض، برمّته، يستشرف ملامح المسرح السياسي العربي، ويقدمه، في شكل إخراجي أصيل، وفريد، وملهم، مع حشد «مجموعة من اللحظات المتوتّرة لموت قصة حب بين مبدع مسرحي عربي مجهول، والمسرح السياسي العربي بمفهومه الراهن». تكامل الشكل مع المضمون، ينصهران في بوتقة مليئة بالتكثيف العاطفي والفكري، مع المحافظة على «التركيز على البُعد الشعري في مكوّنات العرض المسرحي»، وبتر لحظات التماهي الضارة والإشباع اللامتناهي. يقول سليمان البسام في هذا الصدد، «إنّ مهمة المسرح هي طرح الأسئلة، لا تقديم أجوبة معلّبة جاهزة للجمهور، فالمتلقّي –على اختلاف وعيه- ليس بسيطاً ولا ساذجاً… ليس المطلوب أن يخرج الجمهور كلّه بالانطباع نفسه، بل إن الأجمل أن نرى جمهوراً يخرج، وكلٌ منه لديه فهم عن العرض مختلف عن الآخر».
يتنقل العرض المسرحي بين طبقات تجمع العاطفة مع الوعي. يتضمن مداخلات للمهندس الأميركي المتخصّص في هندسة المتفجرات، راسيل أوغل، والعميد المتقاعد في الجيش اللبناني إلياس فرحات. ومع الكم الهائل من المعلومات حول الانفجار وكيفية حدوثه من وجهة نظر العلم والمنطق، لإدراك الشيء بحقيقته، تأتي لحظات من التجلّي. «بعد الانفجار، وفي لحظة السكون، يدركون أن شيئاً فظيعاً قد حصل» يقول راسيل أوغل، تتبعها الشهادة الحية للعميد إلياس فرحات، حول أحد زملائه، الذي قضى نتيجة الانفجار، كأنّ ذلك يشير إلى حالة من اللامعقول حول مصير الفرد في فضاء مماثل من عمّال، وأمّهات، وآباء، وأبناء، ومتقاعدين… الكل مصيره إما الموت، أو العيش مع تبعات الفقد.
يتضمن «صمت» نصوصاً حرة (كتابة سليمان البسام)، لا تعتمد أيّ تراتبية، تتداخل في وحدة فنية مع الموسيقى، والأداء الجسدي، والغناء. مجموعة من التساؤلات المبعثرة عن التدمير، والعدائية، وحفلات الـ Rooftop، ومملكة القمع، ومدن الخوف، والتطبيع مع العدو الإسرائيلي. تتلو حلا عمران النصوص في جوٍّ غرائبي، وتسأل «أين أصبحت القضية؟». تستحضر حلم اللجوء وامتيازات «المجتمع الحر»، تترحّم على كسينجر، وتستهزئ بخيالات الكتّاب والفنانين، وتسأل عن فائدة الفن والرسالة منه، والجماليات، والجمهور. يصدح صوتها في «منتصب القامة أمشي» و«يا نجمة الليل»، وغيرهما من الأناشيد العربية. تتنقل في أمتار قليلة في الفضاء المسرحي، كأنها حاملة صواريخ، أو مدافع، أو قنابل، أو أي أداة لمواجهة الخوف، تتراءى لنا، كأنها جيش ترافقه موسيقى جنائزية، آتية من بعيد.
قالب معاصر يمزج النصوص الحرّة وحركة الجسد المثقل والموسيقى الحيّة التراجيدية
تصل الموسيقى بنا إلى حالات من الإبداع الجمالي، ترهق نفوسنا، وتذكرنا بمآسينا، وأحلامنا، وهزائمنا، ولحظات انتصارات واهية. لماذا رأى المخرج أنّ اللحظة قد حانت لمقاربة انفجار مرفأ بيروت، مسرحياً؟ يقول سليمان البسام إن نصّ «صمت» وُلد كتساؤلات موجّهة إلى الذات حول ماهية وجدوى مشروع المسرح السياسي الملتزم في مواجهة كل هذا التدمير المدروس للأدوات، والتفكيك الممنهج للمعاني، والهجوم على اللغة كأداة لوصف الواقع الذي نعيش، ويتابع: «مهمّتي كمسرحي ملتزم هي محاولة إيجاد صيغة لتناول حدث كانفجار مرفأ بيروت أو مذبحة غزة، والسؤال كيف يمكن أن تستجيب أو تضع صيغة للتفكير، من دون أن تقلّل من الحدث أو تستخف بالجمهور وعقله، وأن تفتح له فضاء بإمكانه أن يتغذى منه».
كل هذ التجسيد، يسبق لحظة الفاجعة. العرض المسرحي، بأكمله، يجسّد الدقائق العشر التي تسبق لحظة وقوع الانفجار عند الساعة السادسة والدقيقة السابعة بتوقيت بيروت، يوم الرابع من آب (أغسطس) 2020. يلجأ المخرج إلى حيلة مسرحية، عبر الساعة التي تتدلّى من الأعلى، وتشكل وسيلة بارعة في الإخراج، وخصوصاً أنّها توهم بوقوع مشهد الانفجار، مع استحالة حدوثه. تحين اللحظة، تتلاشى المؤدية إلى أعماق المسرح، وتنشد للحب، لا شيء سوى الحب، وسط الدمار، تذهب بعيداً منّا. يتبدّى لنا جمال الصورة المسرحية، مترافقاً مع الحزن الشديد، والحب الذي لا يضمحل. نسأل عبر الصورة النهائية عن مكامن الحق والخير في مدننا!
يقدّم العرض المسرحي «صمت» في لحظة مفصلية في سياق المنطقة العربية، وفي مواجهة العنف المتصاعد، والتضليل الإعلامي غير المسبوق، ويسأل عن الأشكال المحتملة للمقاومة الفنية وتعريفاتها، وتتقاطع فيه معاني الخوف، والحرب، والقتل، مع أعظم إبادة جماعية وعرقية يتعرض لها سكّان قطاع غزة في فلسطين المحتلّة، ليُعيد تشكيل واقع منطقة متصدّعة، ومتفتّتة، ومأساوية، وواقع الحرية والجمال فيها.
سيرياهوم نيوز٣_الأخبار