لم يعد يخفى على أحد النقص الحاد في التغذية، الذي باتت تعاني منه الكثير من العائلات السورية اليوم، نتيجة الحصار الاقتصادي المفروض على البلاد، الذي تسبّب بتدهور سعر صرف الليرة وارتفاع أسعار الطعام مقابل الأجور المنخفضة للعاملين، عدا عن ظروف النزوح وفقدان الموارد.
السوريون الذين كانوا طيلة سنوات ما قبل الحرب مُكتفين غذائياً، ويصدّرون الفائض من محاصيلهم وصناعاتهم، صاروا اليوم ينتظرون الإعانات والسلل الغذائية، من مختلف المنظمات العالمية، ومنها “اللجنة الدولية للصليب الأحمر”، التي أكدت في تغريدة لها على تويتر، أن أكثر من 9 ملايين سوري لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم المقبلة.
أما المتضرّر الأكبر من هذه الأوضاع فهم الأطفال السوريون، الذين بلغت نسبة المصابين منهم بسوء التغذية أكثر من 48%، 600 ألف طفل منهم تحت سن الخامسة مصاب بالتقزّم، بحسب الأمم المتحدة التي قالت إن هؤلاء سوف يضعف جهاز المناعة لديهم، وسيكونون عرضة للوفاة بمعدل 11 مرة أكثر من الأطفال الذين يتمتعون بتغذية جيدة.
ابني لا يعرف الفرق بين الموزة والجزرة!
تعمل نور في تنظيف وتعزيل المنازل بدمشق، بعد أن توفي زوجها تاركاً لها طفلين أحدهما يبلغ من العمر أربع سنوات والآخر ما زال رضيعاً.
تجلس الشابة العشرينية على درج مدخل إحدى البنايات وبين يديها ثلاثة أوراق من فئة الخمسة آلاف ليرة سورية، وهو المبلغ الذي أعطتها إياه ربة أحد المنازل التي انتهت من تنظيفها، تضع المال بعناية في جيبها، وتقول للميادين نت:
“تزوجت وأنا صغيرة أو بلغة أوضح أجبرني أهلي على الزواج في عمر مبكر، كي يتخلصوا من مصروفي في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة”.
تضحك بسخرية وتتابع: “لكن على ما يبدو إنّ الفقر أحبّني، لأنه ما زال يلاحقني أنا وطفلَي حتى يومنا هذا”.
تفكّر نور ملياً ماذا ستشتري، فقائمة احتياجاتها كثيرة وكلّها “أولويات وليست رفاهيات” وتضيف: “أعاني من فقر دم شديد نتيجة سوء التغذية، شخّصني المشفى الحكومي مجاناً، لكن من أين لي بالأدوية، سعر دواء الحديد يعادل أسبوعي عمل، ولا يمكنني التعويض من أي مصدر غذائي، هل تصدّقين أنني لم أتذوّق اللحم منذ عام ونصف العام، وولدي ذو الأربع سنوات لا يعرف الفرق بين الموزة أو الجزرة؟!”.
تعيش الأم مؤخّراً حالة قلق شديد، بعد أن اكتشفت إصابة رضيعها بسوء تغذية حاد، تبيّن من خلال وزنه الخفيف الذي وصل إلى 8 كغ فقط، ومقياس الذراع الذي أشار إلى الرقم 10 الملوّن بالأحمر والذي يعني أنه وصل إلى مرحلة الخطورة وتقول: “أنا أصلاً لم أستطع أن أتغذّى جيداً في فترة الحمل، وجسمي بسبب ذلك لا يساعدني على الإرضاع بما فيه الكفاية، أما الحليب الاصطناعي فهو غير متوفّر، ناهيك عن سعره المرتفع جداً، لذلك أستعين بالنشا المطبوخ مع السكر، أو الشاي والأرز المطحون، ندير أمورنا بما نحصل عليه من المساعدات الغذائية، وما يعطينا إياه المركز الصحي من مكمّلات، عسى أن تتحسّن الأحوال يوماً ما”.
لا نأكل إلا وجبة واحدة في اليوم
يخرج أبو محمد من منزله يومياً السابعة صباحاً، ولا يعود إلا مع حلول الليل، إذ إنه يعمل محاسباً في متجر ألبسة، بعد انتهاء دوامه في إحدى المؤسسات الحكومية.
كل يوم وفي التوقيت نفسه، ترنو عيون زوجته وأولاده الخمسة إلى قفل الباب، وهو يديره لعلّهم يرون بحوزته أكياساً، أو يسمعون الصوت الذي كان ينادي سابقاً: “تعالوا احملوا هالأغراض يا ولاد “.
“عم اشهق وما عم الحق”، بهذه العبارة يصف الرجل النازح من إدلب حالته اليوم، وهو يجاهد لتأمين ما يجعلهم يبقون على قيد الحياة فقط، ويشرح للميادين نت: “ثلاثة أرباع ما أتقاضاه يذهب لإيجار المنزل، والباقي نأكل به، الله وحده يعلم فقط الأيام التي قضيناها ونحن نأكل الزيت والزعتر، كما أننا في أغلب الأحيان لا نتناول إلا وجبة واحدة فقط في اليوم”.
أطفال أبو محمد جميعهم في المدارس، وتمّ تشخيص أصغرهم بالتقزّم، ما ألقى حملاً جديداً ثقيلاً على كاهله ويشرح: “من منّا لا يريد أن يكون أولاده بأفضل صحة وحال؟ لكن ما العمل؟ هل هناك شيء يمكن فعله ولم أقم به؟ أسعار الحليب ومشتقاته من ألبان وأجبان إضافة إلى البيض واللحوم البيضاء منها والحمراء، مرتفعة للغاية لا بل تزداد ارتفاعاً كل يوم واستغنينا عنها منذ زمن”.
بسبب سوء التغذية.. نسبة التقزّم بين الأطفال السوريين من الأعلى عالمياً
خلصت نتائج المسح الذي أجرته وزارة الصحة السورية، إلى أن نسبة قصر القامة الشديد بين الأطفال أيّ التقزّم وصلت إلى 12.6%، وهي من النسب العليا عالمياً، بحسب الدكتورة سحر إدلبي أمين سر جمعية أطباء الأطفال السورية التي تقول: “من خلال حديثنا مع الأهالي، تبيّن لنا أن التغذية التي تلقّاها الأطفال في مراحل عمرهم الأولى كانت سيئة من ناحية الإرضاع الطبيعي، أو التغذية التكميلية التي يجب أن يحصل عليها الطفل بعد عمر 6 أشهر، لعدم جدواها وافتقارها للمعادن والطاقة، على سبيل المثال بعض الأمهات اللواتي لم يحصلن خلال فترة حملهن على التغذية المتوازنة اللازمة، اكتفين بإعطاء أطفالهن الخبز والشاي”.
تعتبر السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل هي الأهم لجهة التغذية لأنها أساسية لنموه، فأيّ خسارة تصيبه في تلك المرحلة سوف يصعب علاجها أو تعويضها لاحقاً، وهو ما تشرحه الدكتورة إدلبي: “أظهرت مخططات النمو المعنية بمراقبة طول الأطفال في بلادنا، أن الطول المثالي لهم أقل من اللازم، والسبب الأهم هو سوء التغذية في مرحلة الطفولة الأولى، فتأثير الغدد لا يشكّل سوى 5% من الأسباب، كما أن الأسباب الوراثية، وعلى الرغم من تأثيرها المباشر، لا تؤثّر إلى الدرجة التي يكون فيها طول الطفل تحت المعدل بفارقٍ كبير، ما يؤكد أن نقص النمو يأتي بفعل ضعف التغذية، وعدم تأمين الاحتياجات الأساسية للطفل، من طاقة ومناعة، خاصةً إذا لم يستوفِ الطعام جميع العناصر الضرورية، أو اقتصر على نوع معيّن من العناصر الغذائية”.
وتكمن الخطورة الأكبر في ظاهرة صامتة تغيب عنها أي من المظاهر التي توحي بإصابة الطفل بمرض ما، أو شكوى من شعور بأيّ آلام وأوجاع أو ما يطلق عليه “الجوع الخفي” الذي تعرّفه الدكتورة إدلبي بأنه: “حشو البطن من دون أيّ فائدة، بحيث يبلغ الطفل حدّ الإشباع ويأخذ بعض الطاقة، لكن من دون أن يحصل على أي نمو حقيقي بسبب غياب العناصر اللازمة لذلك، ما سيؤدي حتماً إلى نقصان في الوزن والطول، والنتيجة على المدى البعيد مناعة ضعيفة وقدرات عقلية وجسدية أقل”.
تجزم استشارية الغدد والنمو والسكري السابقة في مشفى الأطفال بدمشق، أن تأثير الحرب والكوارث الطبيعية وما سبّبته من فقر شديد وفقدان للمواد الأساسية والضرورية، أدى لعدم حصول الأطفال على الغذاء “ما وضعنا في سوريا أمام شريحةٍ كبيرة من الأطفال تعاني من هزالٍ شديد ويلزمها الكثير من الإمكانيات والجهد للعلاج”.
وعلى الرغم مما تقدّمه المنظمات الدولية في المراكز الحكومية من مواد داعمة للنمو، كمسحوق الفيتامينات وزبدة الفستق، خصيصاً لمن هم في مراحل الطفولة الأولى، إلا أننا “نحتاج لجهودٍ كبيرة وتكاتفٍ من قبل جميع المعنيين، لأننا أمام حالاتٍ مرضية، وللوقت تأثير كبير ومباشر في علاجها” بحسب إدلبي.
تحذيرات من تفاقم الوضع نهاية عام 2023
حذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، في آذار/مارس الماضي، من أن اثني عشر عاماً من الحرب، والزلازل المميتة الأخيرة، تركت ملايين الأطفال في سوريا بخطر متزايد من الإصابة بسوء التغذية.
وفقاً لتقديراتها، فإن أكثر من 609,900 طفل دون سن الخامسة في سوريا يعانون من التقزّم الذي ينجم عن نقص التغذية المزمن، ويسبّب أضراراً بدنية وعقلية للأطفال لا يمكن التعافي منها، ويؤثّر على قدرتهم على التعلّم وإنتاجيتهم في مرحلة البلوغ.
وأكدت المنظمة أن سوء التغذية الحاد بين الأطفال السوريين في ارتفاع مستمر، فقد ازداد عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6-59 شهراً، والذين يعانون من سوء التغذية الحاد، بنسبة 48% من عام 2021 إلى 2022.
واعتبرت اليونيسف أن ارتفاع الأسعار وعدم كفاية الدخل في سوريا، يجعل ملايين العائلات تكافح لتغطية نفقاتها في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، إذ إنّ 90% من السكان السوريين يعيشون تحت خط الفقر، ما يؤثّر سلباً على نظام أطفالهم الغذائي.
وذكرت المنظمة في بيان لها، أن أكثر من 3.75 ملايين طفل في جميع أنحاء البلاد كان يحتاج إلى مساعدات غذائية قبل الزلازل، وتوقّعت أن يتفاقم الوضع وتزداد صعوبة الوصول إلى الخدمات الصحية والتغذوية الأساسية، في نهاية عام 2023.
سيرياهوم نيوز- الميادين1