| عبد المنعم علي عيسى
قد يكون السؤال الأكثر أهمية من بين الأسئلة العديدة التي تستولدها زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة لسوتشي التي التقى فيها نظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم الجمعة 5 آب الجاري هو التالي: ما الذي استجد فاستدعى اللقاء، في غضون 17 يوما؟ وهي المدة التي كانت تفصل بين اللقاء الأخير واللقاء الذي جرى بين الرئيسين في طهران في 19 تموز المنصرم، ولعل من شأن الإجابة أن تضيء كثيراً على ما جرى في القاعة المغلقة التي دام فيها لقاء الرئيسين لمدة تزيد على أربع ساعات كما أشارت مصادر الطرفين، ومع ذلك فإن ما رشح عن ذلك اللقاء كان شحيحاً، فالبيان الصادر عن كلا الطرفين كان تقليدياً، وهو لا يخرج في سياقاته عن بيانات سابقة كانت قد صدرت بعيد حدوث لقاءات من هذا النوع.
الراجح هو أن أردوغان ذهب إلى سوتشي في محاولة لتعديل كفة القبان الذي يوازن فيه الرئيس الروسي بين الثقلين التركي والإيراني في سورية، وهو إذ يدرك أن كلا الثقلين ضروري للمشروع «الأوراسي» الذي يتبناه في معرض رؤيته لخلق تمددات في الخارج من شأنها أن تكون ذات أثر، سياسي واقتصادي، وازن في مشروع تثبيت القوة الروسية على صعيد التوازنات الدولية، فالميزان، كما يبدو أو كما رآه أردوغان، كانت قد رجحت كفته الإيرانية، على حساب نظيرتها التركية، خلال القمة المذكورة، بل ربما كان الميلان فيه ملحوظا منذ 23 أيار الماضي، اليوم الذي شهد إعلان أردوغان نياته بشن عملية عسكرية تطول مناطق واسعة في الشمال السوري، وتهدف إلى إبعاد «الخطر الكردي» بمسافة لا تقل عن 30 كم عن كامل الحدود التركية.
تضمن البيان المشترك الصادر بعد لقاء سوتشي التأكيد على «التنسيق والتضامن في محاربة كل التنظيمات الإرهابية»، والمؤكد أن هذا التأكيد يمثل «زبدة الحليب» الذي سيجري خضه في المرحلة المقبلة بغية استخلاصها، لكن التأكيد يبدو فضفاضا، أو أن جلبابه واسع، شأنه في ذلك شأن التصريح الذي أطلقه وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو بعيد انتهاء قمة طهران 19 تموز عندما قال «نحن على استعداد لتقديم جميع أنواع الدعم السياسي للنظام السوري»، فكلا الفعلين، تأكيد البيان وتصريح جاويش أوغلو، لا يوضح إذا ما كانت «هيئة تحرير الشام» تندرج في سياقاتهما، والمؤكد أن ذلك سيمثل «العقدة» التي سيتعثر عندها فعل «النجار»، فمن دونها لا يمكن الحديث عن حلول لملف إدلب ومحيطه الذي تسيطر عليه، وإذا ما صدقت التقارير التي راجت في غضون الأسابيع القليلة الماضية، والتي أشارت إلى وجود نيات بترتيب البيت الداخلي لتلك الهيئة يفضي في نهاياته إلى خروج «أبي محمد الجولاني» زعيم الهيئة من المشهد، فإن ذلك سيمثل مؤشراً مهماً على إمكان حدوث خروقات وازنة في هذا الملف، وهو سيمثل رجحاناً لتيار داخل حزب «العدالة والتنمية» ما انفك يتنامى ثقله، وهو ينادي بضرورة تثبيت أركان السلطة وتوفير الشروط اللازمة لدوام استمرار الحزب فيها، على حساب تيار «الأحزاب القومية» الحليفة لهذا الأخير والتي تعالى صراخها في الآونة الأخيرة مستعيدة من خلال الفعل نغمة «الميثاق المللي» لعام 1920 الذي يرى دعاته أن الشمال السوري، بما في ذلك حلب والرقة وصولاً إلى الموصل وكركوك والسليمانية وأربيل، هي «جزء من الأراضي التركية».
ما بعد قمتي «طهران» 19 تموز و«سوتشي» 5 آب، كثرت الإشارات والتصريحات والتسريبات، التي جاءت في بعضها متناقضة ولعل ذلك طبيعيا قياسا لملامستها لفعل حساس، بل على درجة عالية من الحساسية، من نوع إمكان انتقال «التواصل الأمني والاستخباراتي» بين دمشق وأنقرة الذي أكدت جميع الأطراف على دوامه دون انقطاع، إلى «الحيز السياسي» شديد التعقيد لاعتبارات تتعلق بقضايا سيادية واحتلال أراض، ناهيك عن السياسات التي انتهجها نظام أردوغان على مدى 11 عاماً والتي كانت في مجملها ترمي إلى تشظي الكيان السوري كمدخل يلبي المطامع التوسعية المؤكدة عنده، نقول على الرغم من التناقض الحاصل بين الإشارات والتصريحات الصادرة عن كل من أنقرة ودمشق كل على حدة، وتلك مسألة يمكن تفهمها وتبريرها في آن، إلا أن «الزبد» الذي يطفو فوق السطح يؤكد أن ثمة شيئاً غير واضح يتحرك في القيعان فيخرج هذا الزبد على الصورة التي نراه فيها، والراجح هو أن «مناخات سوتشي» الأخيرة سوف تزيد من فعل الحركة الحاصلة في القيعان آنفة الذكر فتضفي على «الزبد» الطافي على السطح لونا لا يخطئه الناظر، فهي، أي تلك المناخات، تبدو وكأنها أرست لقاعدة أساسية تقول: إن «خيار الحرب لم يعد مفيدا»، وإن المفيد يكمن في العمل على «كسر الحواجز» التي يجب ألا تكون جدرانها العالية سببا لعدم القيام بالمحاولة، كما يبدو أن ثمة عوامل داخلية تركية كانت قد ساعدت في وصول أردوغان إلى تلك القناعة التي توافق القاعدة السابقة الذكر، فهو يرى أن الإقدام على أي عمل في سورية الآن سيكون من شأنه الإخلال بالحسابات الداخلية، والراجح هو أنه، وقبيل أن يغادر إلى سوتشي، كان قد اتخذ القرار بـ«الصوم» المانع لـ«ارتكاب الكبائر» قبيل 23 حزيران من عام 2023، وهذا يعني ضمناً أن «الصغائر» ليست مشمولة بذلك الصوم، والصغائر هنا تشمل استمرار الحديث عن «الرعاية التركية» لـ9 ملايين سوري نصفهم يعيش راهناً على الأراضي التركية، وتشمل أيضاً استمرار الحديث عن «حق تركيا» في الدفاع عن أمنها الذي يشكل «الأكراد السوريون» خطراً جاثماً عليه، وهذا «الشمول»، الذي لن يقف عند ذينك الحديثين، سيعني أن التغيير واقع فقط على الآليات في حين أن الجوهر لم يتغير.
هذا لا يعني أن إغلاق النوافذ السورية «الشمالية» هو الحل، ولا يعني أيضاً بأن صد محاولات «الجيران» لفتحها هو السبيل لتلافي ما يمكن أن يتأتى منها، فللجغرافيا حكم مستبد، ثم إن الأحداث ما بعد 18 آذار 2011 خلقت واقعاً لا يمكن تجاهله، ثم إن «الريح» اليوم هي في حال تشي أن مقاربتها هي أفضل بكثير من إغلاق النوافذ توقياً لخطرها.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن