آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » سوريا أولًا:  نحو بوصلةٍ وطنية جامعة

سوريا أولًا:  نحو بوصلةٍ وطنية جامعة

 

 

د. سلمان ريا

 

في زحمة الشعارات التي تتنازع المشهد السوري، تتبدّى صورة مأزومة ومتناقضة: هناك من يدعو إلى الانفصال بذريعة استحالة التعايش، وهناك من يرفع شعار الوحدة الوطنية بصيغتها التقليدية، وآخرون يطرحون اللامركزية الإدارية أو الموسعة أو الفدرالية، فيما يذهب بعضهم إلى خيار الاستقلال الكامل كحلّ نهائي للأزمة. وعلى تنوع هذه الطروحات وتناقضها، يبقى السؤال الأكبر غائبًا: أين مصلحة السوريين؟

 

المصلحة الوطنية ليست في الخرائط ولا في الأطر النظرية وحدها، بل في حياة المواطن الذي طحنته الحرب وفقد بيته وأمانه ومستقبله. سوريا ليست كيانًا افتراضيًا ولا شعارًا للتخوين أو للتكفير، بل وطن يقوم على بشر متساوين في الحقوق والواجبات، أبناء بيت واحد مهما اختلفت انتماءاتهم. إن أخطر ما أصابنا في هذه السنوات لم يكن الدمار المادي وحده، بل انهيار المعايير الوطنية، وتحويل السياسة إلى ساحة إقصاء متبادل، يخوَّن فيها البعض باسم الوطن، ويُكفَّر البعض الآخر باسم الدين، بينما يُقصى المواطن العادي من معادلة القرار.

 

شعار “سوريا أولًا” قد يكون بوصلة جديدة إذا أُعطي مضامين وطنية وإنسانية صادقة. أن نقول “سوريا أولًا” يعني أن يكون بناء دولة المواطنة هو الأساس، دولة قائمة على المساواة والعدالة والكرامة، ترفض الإقصاء والتخوين والتكفير، وتكفل لكل أبنائها الحق في المشاركة المتساوية في صياغة المستقبل.

 

تجارب الأمم الأخرى تعطينا إشارات مضيئة: أوروبا التي تحولت من ساحات حرب إلى اتحاد يقوم على التعاون، جنوب إفريقيا التي تجاوزت عقود الفصل العنصري عبر الحقيقة والمصالحة، وكثير من الدول الآسيوية التي نجحت في الانتقال من الاستبداد والفقر إلى الديمقراطية والتنمية مثل كوريا الجنوبية وإندونيسيا. كلها تؤكد أن الحلول تولد من الاعتراف بالآخر لا من نفيه، ومن بناء مؤسسات قوية لا منطق الغلبة.

 

ولكي لا يبقى الخطاب في دائرة الشعارات، هناك حاجة إلى مقترحات عملية تؤسس لمشروع وطني جامع. ذلك يبدأ بعقد اجتماعي جديد يعرّف الدولة على أساس المواطنة لاالامتيازات، ومؤتمر وطني شامل يضم جميع القوى السياسية والاجتماعية دون إقصاء، ليضع أسس الانتقال إلى دولة جامعة. يلي ذلك إصلاح دستوري عميق يضمن فصل السلطات واستقلال القضاء والحريات العامة، مع عدالة انتقالية توقف دوامة الثأر وتفتح طريق المصالحة وكشف الحقيقة. التنمية المتوازنة ينبغي أن تعيد توزيع الثروة والفرص بين جميع المناطق بعدل، فيما تقوم مؤسسات الدولة الحديثة على خدمة المصلحة العامة لا على الولاء للأفراد أو الجماعات.

 

لكن القرارات لا تُقاس بصوابها على الورق فقط، بل بقدرتها على التنفيذ. والضمان هنا منظومة متكاملة: دستور واضح ملزم، مؤسسات تشريعية ورقابية فاعلة، وقضاء مستقل قادر على المحاسبة، مع دور حقيقي للأحزاب وحرية العمل السياسي في إطار الدستور، بحيث تصبح التعددية السياسية رافعة للوحدة لا أداة للتفكك. احترام المعتقدات والعادات لمختلف المكونات ضرورة حتى تتحول التعددية القومية والدينية والثقافية إلى وحدة متفاعلة، وجمعًا في الواحد المفرد يقوي الوطن. ومن الممكن في هذا السياق اعتماد سلطة تشريعية بغرفتين، إحداهما تمثل عموم الشعب، والأخرى تراعي الخصوصيات التعددية في سوريا، بما يحمي النسيج الوطني ويحوّل الاختلاف إلى عنصر قوة. ولا بد أيضًا من فسحة من الحريات الإدارية والسياسية على المستوى المحلي، تعزز المشاركة وتمنع عودة المركزية المفرطة التي عانى منها السوريون طويلًا.

 

وحتى يترسخ هذا كله، يظل الضمان الدولي ضرورة مرحلية. رعاية محايدة من الأمم المتحدة أو توافقات إقليمية ودولية يمكن أن تساعد على تثبيت الالتزامات ومنع النكوص عنها، ليس بفرض الوصاية، بل بتوفير شبكة أمان تدعم السوريين في مسارهم نحو بناء الدولة. وعندما تترسخ المؤسسات الوطنية وتستعيد ثقة السوريين، يغدو الضمان الحقيقي هو المجتمع نفسه، بوعيه ومؤسساته.

 

في قلب كل ذلك يجب أن يبقى الإنسان المواطن هو المحور الأساسي لمستقبل الدولة. هو البداية وهو الغاية، فلا معنى لوطن بلا مواطن كريم حر، ولا لسلطة بلا عدالة، ولا لدولة بلا مواطنة متساوية.

 

إن سوريا التي نطمح إليها ليست ساحة نزاع بين شعارات متضاربة، بل وطن حيّ متجدد يتسع لجميع أبنائه. “سوريا أولًا” تعني بناء دولة المواطنة والعدالة، دولة تتجاوز جراح الماضي وتفتح أبواب الغد أمام الأجيال. هذه هي البوصلة التي تعيد المعنى للوطن وترد الثقة للسوريين، وتجعل من تضحياتهم طريقًا نحو نهضة وطنية جديدة.

(موقع اخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

إسرائيل الكبرى.. من جنوب سورية إلى القرن الأفريقي

    د. محمد الحوراني ( كاتب سياسي واستاذ جامعي)       التوغلات الأخيرة واللقاءات السرية والعلنية لم تكن الاستباحة الأخيرة لجنود الاحتلال الصهيوني ...