آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » سوريا بين ميزان العلم وميزان المصالح الفئوية

سوريا بين ميزان العلم وميزان المصالح الفئوية

هذه بلاد نشأت على أرضها جميع الأديان، بل إن طقوس الأديان هي طقوس حياة هذه المنطقة منذ الإنسان الأول، لكن هذه التعددية قد تتحوَّل إلى ثراء، أو إلى قنابل عنقودية.

  • هذا الحيز الجغرافي البشري عرف كلّ الحضارات التي لولاها لما كانت هناك حضارة إنسانية

 

بابتسامته الساخرة المعروفة، قال وليد جنبلاط في آخر حديث تلفزيوني له: “لم أقابل مرة حافظ الأسد إلا وحدّثني عن فلسطين باسم سوريا الجنوبية أو جنوب سوريا”، وكنت أتساءل: “إذاً، ماذا نكون نحن اللبنانيين بالنسبة إليه؟”.

ابتسامة جنبلاط كانت استنكارية، لكنها في الواقع تعكس حقيقة صراع تاريخي بين سوريّة سوريا الكبرى ورفض يتساوى فيه الانعزاليون وبعض الذين لا يريدون التمعّن في حقائق التاريخ والعلم حول مفاهيم الدولة/الكتلة وجغرافية اقتصاد الكتلة… ويريدون أن يبدأ التاريخ باتفاقية “سايكس بيكو”، وفي أحسن الأحوال “سان ريمو”.

لكنَّ الطريف أنَّ اعتراض جنبلاط – رغم إصراره على العروبة – تزامن مع حملات وتغطيات صحافية وسياسية غير مسبوقة تدور حول واقع الحزب السوري القومي الاجتماعي وفكر أنطون سعادة، وخصوصاً في ما يتعلَّق بالعلمنة وبمفهوم القومية وبالاندراج في العروبة.

بداية، كانت صحيفة “الأخبار” أكثر من فتح صفحاته لهذه السجالات، وهو عمل جيّد يندرج في إطار نقل الجدل العام إلى الساحة العامة – وبجدية – رغم أن مضمون التغطيات كان في الغالب مؤلماً لمن يحرص على هذا الفكر – وذلك ليس خطأ “الأخبار”، وإنما مصيبة الصراعات الداخلية التي بدأت ديموقراطية حقيقية لا تعرفها الأحزاب العربية الأخرى (انتخابات ودستور وتداول سلطة ومحكمة عليا)، وتحولت إلى شروخ وانقسامات أشبه بالقنابل العنقودية، لتلي هذه التغطيات جدالات فكرية بين معتنقي الفكر وناقديه، وهذا يقع في صميم الحريات وبلورة الصراع الفكري المطلوب.

كثيراً ما فكرت في الكتابة، لكنني تروّيت لعدة أسباب، أولها أنني لست عضواً منتظماً في الحزب، وإن كنت تلميذة عملت عقوداً على إعادة إنتاج فكر أنطون سعادة، وثانيها لأن على من يدخل هذا الجدل أن يكون مستعداً للمتابعة، ليس بمجرد مهاترات أو شعارات، وإنما بما يليق بفكر عظيم علمي يشمل علوم الاجتماع والسياسة والتاريخ والجغرافيا وغيرها… لكون صاحبه أراده “نظرة جديدة إلى الحياة” لكلٍّ أن يؤيّدها أو أن يعترض عليها، ولكن ليس لعاقل يحترم نفسه ومعرفته وخطابه أن يسفّهها، وخصوصاً أنه يرتبط بواقع ومستقبل أمة في أصعب ظروفها.

بدايةً، أردت الردّ على زميل عزيز أحترم ثقافته ومواقفه، اتهم الفكر القومي الاجتماعي بالفاشية، ومن ثم أصبح الرد واجباً على دعاوى وصلت إلى المستويات الرسمية، وانتقلت من الاعتراض والنقاش إلى التسفيه والدوغماتية الشعبوية، لكن على الرد أن يلتزم مستوى الفكر الَّذي يتحدث عنه، أياً يكون التناول.

بداية من مغالطات معرفية كبيرة، فكيف لفكر علماني لا يعترف بالهوية على أساس الأعراق والأديان أن يكون فاشياً؟ كيف لفكر يبني الأمة على أساس كيان المجتمع أن يكون فاشياً ويبني القومية على أساس التفاعل؛ تفاعل الناس في ما بينهم، وتفاعلهم مع الأرض التي يعيشون عليها، بما تعنيه من خصائص وثقافة وتكوّن عبر سيرورة زمنية هي التاريخ، فيكف لهذا الفكر أن يكون فاشياً؟

فكر نقل مفهوم القومية من المصطلح العنصري الذي يربطها بالعرق، والذي ساد أوروبا في القرن الثامن عشر وحتى منتصف العشرين – أوروبا بليبراييها وقومييها وماركسييها على حد سواء (فماركس هو مفكر أوروبي يمثل رؤية وتياراً في مواجهة آخر) – وهكذا انتقل إلى ثقافتنا، سواء على يد اليمين أو على يد اليسار. ورغم أن العديد من مفكري القومية العربية جهدوا في ربط مفهوم القومية بالثقافة، فإننا كثيراً ما شهدنا خطاباً عروبياً عرقياً يعيدنا إلى القبائل والإثنيات، أو دينياً بالمعنى الثقافي.

بعد الحربين العالميتين، ونتيجة دروسهما المرة، تخلى الفكر العلمي السياسي الأوروبي عن المفهوم العنصري، من دون أن يستطيع محوه بمسحة رسول من النفوس. ولذلك، استنَّ التشريعات لمكافحة العرقية والعنصرية. أما نحن، فما زلنا نتحدث – مثلاً – عن “القومية الكردية” – على سبيل المثال لا الحصر. والطريف أننا نصر على إدراجها في إطار العروبة ونحن نحمل المقص ونفصلها عن محيطها، وهي تحمل الخنجر وتغرسه في ظهر وطنها. لماذا؟ لأن مفهوم المواطنة كأساس للقومية في دولة قانون مدنية حديثة ما يزال غائباً. وبسيادة المفهوم العرقي، يعتقد الكرد أنهم كيان منفصل، ويغذي الغرب لديهم هذا الحس بكل الوسائل.

عندما كنت أناقش أطروحتي لمرحلة الدكتوراه في باريس، سألني البروفيسور برنارد فالاد عن المرجعية السوسيولوجية التي اعتمدتها في الجزء الأخير، وأجبت بشرح فكر أنطون سعادة كعالم اجتماع. بعد الجلسة، جاءني المدير العلمي للسوربون، المؤرخ جان بول بليد، قائلاً: هل من المعقول أن مفكراً “عربياً مشرقياً”، بحسب تعبيره، طرح في الثلاثينيات مفهوم ما أسميناه نحن بعد الحرب “القومية المركبة”؟

لقد عاشت أوروبا قرناً من الحروب بسبب تعريف الانتماء الوطني بالدين، ونصف قرن بسبب تعريف الانتماء بالعرق، وانتهت إلى دمار رهيب دفعت إليه، ودفعت البشرية أثماناً لم تخرج من نتائجها حتى اليوم. قرأت الدرس لنفسها، فاستبعدت العلّة، وقرأت الدرس لنا – لهيمنتها علينا – فرسّخت العلة، وساعدناها متطوعين أو بثمن، وباستماتة، على الموت.

سنّت فرنسا في العام 1905 قانون العلمنة كي تخرج إلى الأمان الاجتماعي، وسنَّت أوروبا قوانين مكافحة العنصرية كي تخرج إلى الأمان الاجتماعي، لكن علمنة الفكر القومي الاجتماعي ليست علمنة فرنسا، وتنويره ليس التنوير الأوروبي، وإن تقارب مع أوغست كانت. هي مفاهيم نابعة من قلب التكوين الاجتماعي لسوريا التاريخية. هذه بلاد نشأت على أرضها جميع الأديان، من الأسطورة إلى الإبراهيمية، وتشكل إنسانها (كما أغلب الشرقيين) على رابط نفسي عميق بالدين بمفهومه الروحي الخفي، بل إن طقوس الأديان هي طقوس حياة هذه المنطقة من العالم منذ الإنسان الأول وحتى اليوم، لكن هذه التعددية الهائلة قد تتحوَّل إلى ثراء، وقد تتحول إلى قنابل عنقودية؛ ثراء إذا ما تم الاعتراف بها ثقافياً وإيمانياً ووحدة حياة في إطار المواطنة، ودماراً إذا ما تحولت إلى هوية جزئية تعلو فوق الهوية الوطنية الجامعة، بل وتسمح لنفسها بالعبور إلى امتدادات قد تكون مصلحتها الأولى تدمير هذه البلاد، لا لحقد، كما يقول السذج، بل لطمع في خيرات وموقع تحول من نعمة إلى نقمة، وخصوصاً عندما تناقض وجودها وصيغتها مع وجود سرطان اسمه “إسرائيل”.

من هنا، تفهم الهجمة المتعددة الأبعاد على الفكر السوري القومي الاجتماعي مع نهايات الحرب على سوريا السياسية الحالية، لأن نهايات الحرب العسكرية تعني الانتقال إلى مرحلة حروب الأفكار، ومن خلالها تحديد المتسيّدين والمستفيدين.

تقديم هذا العرض الموجز لمسألة “سوريا الطبيعية” أو “سوريا التاريخية” أو “سوريا الكبرى” هو من باب التأسيس على الأساس، لا لقلب الأمور رأساً على عقب.

أولاً: لأن ما حمله الفكر القومي الاجتماعي في نهايات العشرينيات وحتى نهاية الأربعينيات، تاريخ استشهاد صاحبه على يد القوى الاستعمارية الغربية وعملائها، وما أضافه من تفصيلات وتطوير عدد من المفكرين من خطه، لا تكمن أهميته على الإطلاق في “سوريا الكبرى”، لأن هذا المفهوم التاريخي الجغرافي الثقافي كان قائماً منذ فجر التاريخ ولدى جميع مفكري وسياسي، بل وأدباء تلك المرحلة. ومن لم يسمع بهم، فهو يحمل وحده ذنب نقص ثقافته، وليعد إلى آلاف المراجع والكتب، من التاريخي والعلمي والديني إلى الأدبي. على سبيل المثال، ليعد إلى الدكتور أحمد داوود في “تاريخ سوريا القديم”، أو إلى جبران خليل جبران في جميع مؤلفاته، أو إلى الحكومة الفيصلية والبرلمان السوري الأول الذي عقد في دمشق في العام 1919- 1920 كأول برلمان منتخب ديموقراطي في المنطقة، وشعاره إنشاء دولة سوريا الكبرى ورفض “سايكس بيكو” و”سان ريمو”، ورفض قيام “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين، إلى أن قضى عليه الاحتلال الفرنسي بعد 22 شهراً (في 24 تموز/يوليو 1920)، إذ كانت أولى المهمات التي كُلّف بها الجنرال الفرنسي ماريانو غوابيه، قائد الفرقة الفرنسية التي احتلت دمشق، مداهمة مقر المؤتمر السوري العام ومصادرة أوراقه ووثائقه.

ثانياً: لمن يحب العودة سحيقاً إلى التاريخ، وهذا ديدن وواجب، فإن الفارق بين الأمم العريقة والأمم اللقيطة هو تراكم كثافة طبقاتها التاريخية، وبهذا لسوريا أن تباهي الأمم. نعم، هذا الحيز الجغرافي – البشري عرف كلّ الحضارات التي لولاها لما كانت هناك حضارة إنسانية كما هي؛ عرف سومر (وكل شيء ولد في سومر، يقول كرامر)، وعرف آشور (ومنها اشتقت كلمة سوريا = تخفيف آشوريا)، وعرف البابليين والسريان (السريان اسم لثقافة، وليس لعرق)، والكلدان (وهم آشوريون تكثلكوا)، وعرف الكنعانيين والآراميين الذين تشكَّلوا كقوة سياسية في الألف الحادي عشر قبل الميلاد، وأصبحت لغتهم لغة الثقافة العالمية في الألف الثاني؛ لغة كتب فيها الشاعر ملياغروس قبل أكثر من ألفي عام يقول:

“جزيرة صور مربيتي – وجدارا موطني – أنا سوري – أي عجب في ذلك أيها الغريب – الخواء نفسه ولد جميع البشر”. لغة تحدث بها السيد المسيح، فنقل ما قاله مليار من البشر، ولكن لم يحتفظ بها إلا هواء معلولا.

يعتبر علماء اللغات أنها دليل أكبر على وحدة المنطقة، لأنها “تظهر تطابقاً في بنيتها النحوية والقواعدية والصرفية والمفردات وغيرها”؛ بنية أسست للغة العربية الحديثة، ويعرف الأثريون أن الخط النبطي في جنوب سوريا هو آخر خط قبل العربية الحديثة.

ومن لا يريد ذلك ما عليه إلا أن يذهب 7 آلاف سنة إلى الوراء، ويمحو أوغاريت من السجلات الآشورية، وينكر علاقاتها الممتدة من جبيل وأور، أو يذهب خمسة آلاف إلى الوراء ويقتلع آثار مملكة ماري، أو ثلاثة آلاف سنة ويقتلع آثار إيبلا، ويدمر 17 ألف لوح تشكّل مكتبتها، وأول قاموس بثلاث لغات في التاريخ (إن لم تكن قد دمّرت أو سرقت)، وليذهب إلى حمص، وينتزع من بطن 3600 سنة ألواحها المسمارية الـ73، ليقول إن أحداً لم يكتب بالأكادية والحورية، وليناطح الثور المجنّح في بابل وآشور، وليسقط حمورابي من سجل التشريع البشري، وليمحُ أناشيد البعل في أوغاريت، وليطلق الرصاص على ملكي صادق في القدس، ولينم مرتاحاً تحت شجرة قطع كل جذورها الممتدة وأبقى منها على طبقة قصيرة واحدة.

ثالثاً: كل ذلك تكلّل بالأمويين الذين ألحقوا الدنيا ببستان هشام، وباللغة العربية التي نسخت كل جداتها وأمهاتها. هذا الأمر يقره الفكر القومي الاجتماعي بشكل واضح، ويجهله من لا يقرأ، سواء كان من الخصوم أو من بعض القوميين الذين يغوصون في صراع مفتعل بين السورية والعروبة، وينسون أن قسم الانتماء إلى الحزب يتم على مبادئ وغاية، والأخيرة تنص على إنشاء جبهة عربية واحدة.

أما اللغة، فليراجع الناس السير، ليعرفوا أن بنات أنطون سعادة لم يتحدثن إلا الفصحى، وأن التحية أو الشكر باللغة الأجنبية ممنوع عند القوميين الاجتماعيين، وأن الاهتمام بالعربية مقدس، وأن نصف كبار كتاب ومبدعي سوريا الطبيعية تخرجوا من مدرسة هذا الفكر.

رابعاً: كفى غوصاً في التاريخ، ولنعد إلى الحاضر، إلى الأزمة السورية والحرب، فليس من باب الإنشاء أن نقول إنها حرب على سوريا الدولة والتاريخ والموقف. وفي ذلك، كانت فرزاً حاداً كضوء شمس آب/أغسطس بين معسكر اندرج في المؤامرة، وآخر اندرج في خط الدفاع بالدم والفكر وكل ما يملك.

وكما جاء القوميون استشهاديين إلى جنوب لبنان في العام 1982، وبينهم البانياسي عمار الأعسر وخالد أزرق، جاء أدونيس نصر ليستشهد مع خمسة من رفاقه (لا يلتقي اثنان منهم في طائفة واحدة)، ولكنهم يلتقون في إيمان واحد. قاتل القوميون في حرب سوريا ضد الجهالة الدينية وضد الجهالة العرقية العنصرية وضد التآمر مع المستعمر ومع العدو. والآن، تنتهي الحرب، وتقترب الاستحقاقات الدستورية والسياسية، فهل لنا أن نسأل: لماذا اندلع الهجوم على الفكر القومي الاجتماعي؟ لماذا يتم تسخيفه، كما كانت تفعل قناة “الجزيرة” مع التيار القومي بكله بعد احتلال العراق، إذ حولت الحديث عنهم إلى مصطلح تسخيفي ابتكرته هو “القومجية”؟

من المتضرر من هؤلاء الذين قاتلوا دفاعاً عن أمتهم، وحملوا فكرهم الذي يحمل الحل لمشاكلها؟ هل المتضررون هم الذين يخافون علمانية هذا الفكر أو الذين يخافون أن يفقدهم ذلك سطوتهم المالية والسلطوية؟ أهم الذين يريدون العودة إلى الإمارات الرافلة بثوب الخيانة أو إلى عروبة التحالف العربي الذي دمر اليمن وقد يدمر السعودية؟ هل يُخشى من ارتفاع شعبية الفكر القومي بعد أن دمّر العرب على أرض العرب الفكر العروبي التقليدي، وبعد أن جزّ الإخوان ومتفرعاتهم فشل الفكر الإسلاموي؟ هل يخشى من يريدون الالتحاق بالتطبيع من الموقف الجذري للقوميين إزاء الصراع مع الصهيونية؟ هل يُخشى من أن يكون للقوميين ثقل برلماني أو شعبي يؤثر في صياغة الشكل المقبل للدولة والدستور والعلاقات أو هي حسابات أخرى كثيرة؟

وأخيراً، إذا كان هذا هو الهجوم على الفكر، فهل الهجوم على الإطار التنظيمي – الحزب – هو ما تكفل به القوميون أنفسهم بانقسامهم وتشرذمهم وسعادتهم بمن يشجّعهم على الفرقة؟ وهل تخلف المؤسسة الحزبية عن البناء الفكري النهضوي هو ما يحول هذا الحزب من حزب نهضة إلى حزب سياسي عادي، كما لم يرده مؤسّسه؟

(سيرياهوم نيوز-الميادين٢٦-١٢-٢٠٢٠)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

اميركا تملأ الفراغ بـ… الفراغ

  نبيه البرجي   الى أي مدى يمكن الأخذ بالقول الروسي “ما حدث بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو، دليل على أن أميركا تُحتضر في الشرق ...