آخر الأخبار
الرئيسية » الأخبار المحلية » سوريا والاستدارة التركية

سوريا والاستدارة التركية

أدّت الحرب في أوكرانيا دوراً مهماً في تضييق هامش المناورة أمام تركيا، فطبيعة الصراع الذي يخوضه الغرب فيها ضد روسيا ومن معها من الحلفاء وخاصةً الصين وإيران، زاد من الضغوط الغربية على الاقتصاد التركي.

تتواصل الأنباء الضبابية حول المفاوضات السورية التي تجري بالعراق في مسعى جدّي للوصول إلى اتفاق عودة العلاقات السورية التركية، وهي حتى الآن بطيئة لم تصل إلى نتائج ملموسة برغم الجدية التي يبديها الوفدان، فالشروط السورية لم تغادر بعد الموقف الأوّلي الذي ربط عودة العلاقات بانسحاب القوات التركية من الأراضي التي احتلّتها تركيا، على الرغم من المؤشرات الكبيرة للبدء بأولى خطوات تفكيك الجماعات المسلحة التي ستأخذ وقتاً ليس بالقصير، وهذا الموقف التركي الجدّي يطرح أكثر من سؤال حول دوافعه ومداه ومآلاته؟

لا يخفى على أحد حجم الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها تركيا نتيجةً لمجموعة من العوامل، فالطموحات الإمبراطورية الأكبر من القدرة الاقتصادية على تغطيتها مالياً، والخلل برؤية حجم الهامش المتاح لتحقيق هذا الحلم بالاستناد إلى اندلاع الصراع الدولي المتصاعد  مع انطلاق الثورات العربية الملوّنة لـ “الربيع العربي” ابتداءً من تونس في نهايات عام 2010، واعتبار ذلك بمثابة الفرصة التاريخية لملء الفراغ الحاصل نتيجته باستغلال حاجة طرفي الصراع الدولي لدور تركيا الجيوسياسي الحاسم فيه، بما يمنحها  الفرصة التاريخية لتحقيق حلم عام 2023 الذي مضى من دون أن يتحقّق برغم كلّ التدفّقات المالية العربية والروسية بأشكال مباشرة أم بدعم مشاريع اقتصادية.

أدّت الحرب في أوكرانيا دوراً مهماً في تضييق هامش المناورة أمام تركيا، فطبيعة الصراع الذي يخوضه الغرب فيها ضد روسيا ومن معها من الحلفاء وخاصةً الصين وإيران، زاد من الضغوط الغربية على الاقتصاد التركي، ولم تفلح السياسات التركية باستمرار التجارة المباشرة أو الملتوية مع “إسرائيل” بعد معركة “طوفان الأقصى” بتغيير الموقف الأميركي الذي يشترط عملية الإنقاذ الاقتصادي لتركيا بالاصطفاف الكامل معها في أوكرانيا من دون اعتبار لحجم الديون الروسية على تركيا الذي وصل في قطاع الغاز وحده إلى 60 مليار دولار مسكوت عنها، ولا بديل رخيصاً ومؤجّلاً لهذا الغاز الذي يشكّل 50% من احتياجاتها.

عدا عن مخاطر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة هناك مخاطر استمرار تآكل القدرة السياسية في استمرار السيطرة على مقاليد الحكم (الرئاسية والتشريعية والتنفيذية) نتيجةً للأزمة الاقتصادية والدور العائلي الكبير في تمركز الثروات الاقتصادية لتركيا في أيدي أكبر شريحة على مستوى العالم وتقدّر بـ 9% من مجمل سكان تركيا على حساب الشرائح الأكبر من الأتراك الذين وصل أغلبهم إلى مستويات الفقر الثلاثة، بالإضافة إلى الموقف المتناقض تجاه معركة “طوفان الأقصى” الذي ساهم بالخسارة الانتخابية الأخيرة لصالح حزب الشعب الجمهوري وحزب الرفاه الجديد الصاعد.

ويأتي القلق التركي من الدور الأميركي في الشمال السوري في توفير البيئة الآمنة لحزب الاتحاد الديمقراطي في استمرار تجربة الإدارة الذاتية التي يقودها وهو الوجه السوري من حزب العمال الكردستاني في تركيا، وترى تركيا أن استمرار هذه التجربة وتعزيزها بإجراءات سياسية على الأرض تعزّز حالة الانفصال عن الجسم السوري العام وهي بمثابة تهديد لوحدة الأراضي التركية حيث يتركّز الكرد في جنوب شرق تركيا الموازية للشمال السوري، ونجاح تجربتهم سينعكس على كرد تركيا بوجود قاعدة سياسية عسكرية اقتصادية في سوريا تؤمّن تحقيق الحلم الكردي في بناء دولة لهم انطلاقاً من الشمال السوري، بما يعيد تركيا إلى عام 1918 حيث تمّ إقرار تمزيقها إلى خمس مناطق نفوذ غربية.

يأتي دور محور المقاومة الذي تقوده إيران في دفع تركيا للتفكير من جديد بوضعها الجيوسياسي المستقبلي، وخاصةً بعد تراكم إنجازاته في إثر معركة طوفان الأقصى، وتحكّمه في مسار المعارك لصالحه وعجز الولايات المتحدة ومعها كل النظام الغربي عن تحقيق الأهداف التي وضعها لنفسه، وتدرك تركيا بأن المعارك ستتوقّف مهما طال زمنها، وسيتكشّف ذلك عن واقع جديد لكل منطقة غرب آسيا تُقرّ الولايات المتحدة بنتائجه وضرورة الذهاب إلى هدنة طويلة بعنوان التسوية السياسية، خلاصتها المزيد من الانكفاء الأميركي الذي سيملأ بإرادات القوى التي دفعته إلى ذلك برغم كل محاولات الإفراغ لإنجازات قوى المقاومة.

هذه العوامل المشتركة تؤدي دوراً أساسياً للعقل السياسي التركي الحاكم في التفكير بتعاطٍ مختلف مع الصراع الدولي، وقد يدفعه للانزياح الكامل نحو القوى الآسيوية الناهضة. فطلب تركيا الانضمام إلى دول بريكس لم يأتِ ضمن إطار الألعاب السياسية المعهودة، وبرغم برودة العلاقات الروسية التركية في إثر موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، فإن التعاون بينهما في أفريقيا واضح وخاصةً في النيجر وبوركينا فاسو حيث خضعت المجموعات السورية المسلحة التي تمّ جلبها من “الجيش الوطني” الذي أسسته تركيا للقيادة العسكرية الروسية، مع استمرار تدفّق الغاز والسيّاح الروس إلى تركيا لدعمها اقتصادياً، كما أنّ الاجتماعات الروسية التركية لترتيب أوضاع الشمال السوري لم تتوقّف، بل أخذت واقعاً متسارعاً.

أحد أهم المؤشرات على بدء الاستدارة التركية هي زيارة وزير الخارجية التركي حقان ڤيدان إلى روسيا والصين، حيث التقى بالرئيس بوتين وأطلعه على مخاطر إجراء انتخابات المجالس المحلية في الشمال السوري والدور الأميركي في تفاقم التهديدات الانفصالية وأثرها على تركيا، والأهم من ذلك هو وصوله إلى بكين ولقاؤه بكلّ من وزير الخارجية ونائب الرئيس الصيني وإقراره بوحدة وسيادة الصين على أراضيها بشكل مخالف للمخططات الأميركية، وخاصةً ما يتعلق بإقليم شينجيانغ ودور المجموعات الإيغورية التي تدعمها الولايات المتحدة وتحتضنها تركيا في الشمال السوري.

يبدو أن الاستدارة التركية حتى الآن جدية وبدأت بالانعكاس على الملف الأخطر عليها في سوريا، فهي تحتاج لوحدة الأراضي السورية بديلاً عن مشروع تفكيكها، بعد أن وصلت لاستحالة السيطرة والتحكّم فيها مع استمرار توازن القوى الأميركية الروسية الإيرانية التركية، وفي المشهد الخلفي “إسرائيل”، وهذا التوازن بالقوى يتيح الفرصة زمنياً لتثبيت واقع التوازن المُفكّك لها، فبدأت بسلسلة من السياسات التي ترد على السياسات الأميركية الساعية للجمع بين المجلس الوطني الكردي ومجلس سوريا الديمقراطي، وتخفيف حدة الخلافات بين أربيل والقامشلي، فكانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى العراق وإطلاق يد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لتحقيق المصالحة السورية التركية وبدعم روسي إيراني.

لا شكّ أن هناك مصلحة سورية بتحقيق هذه المصالحة برغم حجم الأذية التي تعرّضت لها من جرّاء المسؤولية التركية عن القسم الأكبر من دعم الجماعات المسلحة، والكارثة السورية أثبتت واقعاً لا يمكن تجاوزه في العلاقات السورية التركية، فحجم التداخل السكاني بين البلدين وسهولة الانزياحات السكانية تاريخياً تعبِّر عن حجم التأثيرات المتبادلة بين البلدين بل بين بلدان المنطقة التاريخية التي تُعدّ مركز العالم، فلا دور لتركيا جنوباً إلا عبر البوابة السورية ولا استقرار لسوريا من دون علاقات متوازنة مع تركيا، وهذه المعادلة لا يمكن أن تتحقّق بشكلها الأمثل إلا إذا ترافقت مع تغيير الرؤى السياسية الداخلية لكلا البلدين بما يتيح تجاوز الأزمات التي تولّدت في كامل منطقة مركز العالم كنتائج للحرب العالمية الأولى 1914- 1918.

 

 

 

سيرياهوم نيوز 2_الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رافنيان: أبدأ عملي بحماس … القائم بأعمال سفارة إيطاليا يصل دمشق

أعلنت وزارة الخارجية الإيطالية أمس الأربعاء عبر منصة «إكس»، أن روما أرسلت سفيراً جديداً لها إلى دمشق، وأن ستيفانو رافانيان سوف يترأس البعثة الدبلوماسية الإيطالية ...