قد تكون الأسابيع القادمة هي الأكثر خطورة والأكثر أملاً أيضاً في تاريخ سوريا المعاصر منذ أن بدأت بالوجود بعد الحرب العالمية الثانية، فهناك مؤشرات عديدة على بدء تغير المناخ الإقليمي، عربياً وتركياً، تجاه دمشق بالتحديد.
إشارات متعددة ومتناقضة وصلت مع وصول المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في سوريا إلى دمشق “غير بيدرسون”، وهو الذي يعمل على عودة انعقاد اللجنة الدستورية السورية بعد توقفها في إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا 2022، وحرمان روسيا من حضور اجتماعات جنيڤ، والذي دفعها أخيراً إلى اقتراح عودة انعقاد هذه اللجنة من جديد في واحدة من أربع دول عربية محايدة بينها وبين الولايات المتحدة، وهي مصر والسعودية والصومال والعراق.
قد يوحي تولّي المبعوث الأممي الخاص العمل على هذا الاقتراح بأن قطار البحث عن الانفراج في سوريا قد بدأ من جديد، وكأنّ هناك آفاقاً جديدة بدأت تطل على واقع السوريين، وترافق ذلك مع أكبر اعتداء إسرائيلي دموي على الجيش السوري في تدمر ذهب ضحيته عشرات الشهداء والجرحى ومثلهم تقريباً في غزة، واستمرار محاولات اختراق جبهة جنوب لبنان، مع تصعيد أميركي غربي كبير ضد روسيا مع بدء استخدام الصواريخ الأميركية ATACMS داخل الأراضي الروسية في الواجهة الأوكرانية.
لم يأت الاقتراح الروسي لانعقاد اللجنة الدستورية من فراغ، بل في سياق المتغيرات السياسية الأميركية بعد نجاح دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية والتشريعية، والرهان عليه بشكل حذر في سباق مع الزمن الفاصل بين النجاح والاستلام لتثبيت واقع جديد في السياسات الدولية، بعيداً من سياسات الدولة العميقة بواجهتها الحزبية (الحزب الديمقراطي)، والتي تسعى في المقابل لاستغلال المدة المتبقية للديمقراطيين والتي لا تتجاوز الـ 60 يوماً، للتصعيد الشديد ضد روسيا والدفع بها نحو سياسات متشددة لا يمكنها إلا أن تسلكها قسرياً، وهذا ما حصل مع تبنّي عقيدة نووية روسية جديدة تدفع بها نحو حافة هاوية الحرب النووية، بما يمنع الإدارة الأميركية الجديدة من التراجع عن سياسات الدولة العميقة، خارجياً وداخلياً.
أصبح من الواضح أن العالم يعيش أصعب مرحلة في تاريخه الحديث بعد حربين عالميتين، رسمتا الخرائط الجغرافية للدول وتوزيع مناطق النفوذ العالمي بين القوى الكبرى آنذاك (فرنسا وبريطانيا، ثم الولايات المتحدة والاتحاد السوڤياتي)، وهو في سياق مخاض ولادة جديدة بعد عقم مديد إثر انهيار الاتحاد السوڤياتي، واستشراس نخبة مالية بواجهة أميركية في الهيمنة على العالم ومقدراته، وتطويعه لخدمة الأجندات الثقافية بما يخدم استمرار العبث بمصير البشرية لصالح مجموعة ضئيلة من البشر، لا تتورع عن ارتكاب أعظم الجرائم وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع في غزة ولبنان، من دون الالتفات إلى انهيار سردياتها الديمقراطية والحقوقية التي بقيت تعزف عليها منذ أكثر من قرن من الزمان.
وأصبح من الواضح أيضاً أن رهانات التغيير الداخلي للدول يخضع بالدرجة الأولى لسياسات القوى الدولية العظمى المنكفئة داخلياً وخارجياً ( الولايات المتحدة والدول الغربية)، رغم أنها ما زالت الأقوى نسبياً، أو الرهان على قوى دولية ناهضة (الصين وروسيا بشكل أساسي) في وجه النظام الغربي، وأكثر ما يمكن تمثيله بهذا الأمر هو ما وصل إليه الواقع السوري حتى الآن، وإن كانت ليبيا واليمن والكثير من دول العالم تحمل مشتركات الواقع السوري نفسها.
يأتي غير بيدرسون إلى دمشق وهو يدرك ضمنياً أن عودة السوريين من جديد إلى اجتماعات اللجنة الدستورية لا قيمة لها من الناحية الفعلية في زمن احتدام الصراع الدولي في أوكرانيا وجنوب لبنان وغزة، فالسوريون قد انقسموا برهاناتهم الإقليمية والدولية تبعاً لرؤيتهم للصراع الدولي، وأن تصوراتهم للمستقبل السياسي لبلدهم لا تخضع لإراداتهم الذاتية، بل تخضع لمصالح الدول الإقليمية والدولية التي يستظلون بمظلتها، والجميع ينتظر نتائج نهاية الصراع الدولي وانعكاسه على المسألة السورية، وهذا ما يدركه المبعوث الأممي الخاص جيداً، ويستمر بمهمته بانتظار نتائج الصراع ليبني عليها توافقاً دولياً يتم تظهيره عبر مؤتمر دولي أو إقليمي يُنهي الصراع السوري الداخلي وفقاً لقواعد دولية وإقليمية جديدة.
قد تكون الأسابيع القادمة هي الأكثر خطورة والأكثر أملاً أيضاً في تاريخ سوريا المعاصر منذ أن بدأت بالوجود بعد الحرب العالمية الثانية، فهناك مؤشرات عديدة على بدء تغير المناخ الإقليمي، عربياً وتركياً، تجاه دمشق بالتحديد، وتراجع الاهتمام بالأطراف السورية التي ربطت رهاناتها بالنظام الغربي، وهذا الأمر ما كان ليحصل لولا اعتبارات خاصة بهذه الدول نتيجة الاستعصاء الذي أصابها في الحرب السورية من جهة، والخشية من تغير واقع النظام الدولي وانعكاسه المباشر عليها، وهي تحتاج إلى سوريا الجغرافيا بما يعزز دورها القادم في غرب آسيا بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه هناك العامل الإسرائيلي- الأميركي الأخطر الذي يرى في سوريا الجغرافيا العامل الأخطر في الصراع مع قوى المقاومة المتجذرة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق، وهي بمنزلة وتر أخيل المقاومة بعد أن أُنهكت في أطول حروبها.
يختلف رهان دمشق عن أغلب قوى المعارضة، فهي وضعت رهاناتها وهي في أقوى حالاتها قبل الحرب على قوى المقاومة من جهة، وبالأساس إيران وحزب الله، وعززت ذلك بعد الحرب السورية وزادت من رهاناتها على الخيارات السابقة، وأضافت إليها كلاً من روسيا والصين بشكل متفاوت، ويبدو حتى الآن أنها نجحت بذلك إلى حد بعيد حتى وهي في أضعف حالاتها، وهي تدرك حجم مخاطر التغوّل الإسرائيلي- الأميركي في حال هزيمة مقاومة حزب الله بشكل أساسي، وما يمكن أن يتبع ذلك من انفجار إقليمي واسع قد يُسقط كامل الجغرافيا السورية، ومع ذلك كان الخيار واضحاً وظاهراً خلال مؤتمر القمة العربية والإسلامية الطارئ في الرياض، وأكثر وضوحاً بعد زيارة المستشار الخاص لمرشد الثورة علي لاريجاني، وبحالة من الاعتقاد بأن نجاح حزب الله في هزيمة “إسرائيل” سينعكس إيجاباً على الواقع الجيوسياسي والاقتصادي والأمني لدمشق، وسيمنحها هدنة طويلة بعض الشيء بانتظار انتهاء الصراع الدولي استعداداً لصراع دولي جديد.
موقع أخبار سورية الوطن 2_الميادين