| عبد المنعم علي عيسى
لم تكن مصادفة أن يتزامن الهجوم الذي شنته «جبهة النصرة» وفصائل متحالفة معها يوم الأربعاء الماضي، واستهدفت من خلاله ريف حلب الغربي وصولاً إلى المدينة نفسها، مع الإعلان عن سريان وقف إطلاق النار ما بين إسرائيل و«حزب الله» الذي جرى الإعلان عنه يوم الثلاثاء، على أن يجري العمل به صبيحة اليوم التالي، فالاتفاق الذي قيل فيه الكثير، وأياً تكن مندرجاته ومخرجاته، ستكون له تداعيات كبرى على التوازنات الإقليمية التي كانت سائدة قبيل سريانه، ولذا فإن هجوم «جبهة النصرة» يصبح، وفق هذا السياق، محاولة تركية لجس نبض المتغيرات الحاصلة على تلك التوازنات، ثم مراقبة ردة الفعل الإيرانية والروسية، شريكي «أستانا»، على حد سواء، لكن على الرغم من ذلك فإن الهجوم يمكن له أن يمثل أيضاً خطوة تركية استباقية لملامح تحرك روسي يشي، بقناعة روسية باتت حد اليقين، بأن «أستانا» استنفدت مهمتها، وهي إذ استطاعت الحفاظ على استقرار أمني من نوع ما، لكنها بالمقابل لم تستطع أن تدفع بعربة الحل السياسي ولو لخطوة واحدة، ولذا لا بديل من البحث عن «منصة» أخرى قد تستطيع الدفع بتلك العربة، ولعل تلك القراءة التركية تكتسب «مشروعيتها» من ملمحين اثنين، أولاهما التقارب الروسي- الإسرائيلي تجاه سورية، والحاصل بعد زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر إلى موسكو مطلع شهر تشرين ثاني المنصرم، والذي تلاه حديث للمبعوث الروسي الخاص ألكسندر لافرنتييف تحدث فيه عن «الاحتلال التركي»، وثانيهما البيان الذي أصدرته «منصة موسكو» قبل أيام، والذي وضعت فيه، بالتلاقي مع حزب كردي وشخصيات معارضة أخرى، تصوراً لمشروع حلّ في سورية، وإذا ما كان المشروع لا يخرج في سياقاته عن كل البيانات التي تصدرها المعارضة، إلا أن الجديد في الأمر أن المشروع الذي تضمن بنوداً ثمانية جاء في أحدها الدعوة إلى «بناء نظام جديد في سورية يقوم على علاقة متوازنة بين المركزية واللامركزية»، الأمر الذي نظرت إليه أنقرة بقلق مؤكد، فالبيان ما كان ليصدر لولا أن موسكو راضية عليه بحكم قرب «المنصة» منها، والطرح الذي فيما لو نجح، ولاقى قبولاً لدى الطرفين، الحكومة السورية و«الإدارة الذاتية»، فإن 80 بالمئة من العقبات التي حالت من دون وصول الطرفين إلى اتفاق تكون قد زالت، والراجح هنا أن أنقرة تتحسب لإمكان أن تستطيع موسكو شدّ «واشنطن ترامب» إلى ترتيبات كهذه، وهي ستكون، فيما لو حصلت، شديدة التأثير على الدور الإقليمي التركي، بل ومؤثرة أيضاً على دور «حزب العدالة والتنمية» الذي سيسهل اتهامه داخلياً حينها بإهدار موارد البلاد والرمي بالأخيرة في صراع كانت نتيجته صفر مكاسب.
من المؤكد أن ما جرى كانت نتيجة لقراءة تركية مفادها أن الظروف باتت أكثر ملائمة لتحصيل «أوراق» أكثر في الجعبة، فـ«الخرق»، وأياً تصل مدياته التي سيصل إليها، سيدفع، ونحن هنا لا نزال في القراءة التركية، بالحكومة السورية إلى تليين مواقفها تجاه التطبيع مع أنقرة الذي بات يشكل أولوية لهذه الأخيرة لاعتبارات لها علاقة بالاقتصاد والثقل الذي يشكله اللاجئون السوريون عليه، ناهيك عن أن الفوضى الأمنية التي يعيشها الشمال السوري باتت تتمظهر بأشكال مقلقة لغرف دوائر القرار في أنقرة، خصوصاً أن الأحداث التي شهدها الشمال السوري على مرّ العام الماضي كانت تشي بأن ثمة شعوراً بـ«فائض القوة» لدى «جبهة النصرة» راح يتراكم، وما زاد من القلق هو أن المحاولات لتدويره سياسياً كلها لم تنجح، ولذا فإن العملية التي جاءت في تلك السياقات ما كان يجب أن تكون مفاجئة، ولربما يمكن الميل نحو تصديق تلك التقارير التي أشارت إلى أن الإعداد لها «كان ساري المفعول منذ ثلاثة أشهر»، وفقا لما ذكرته منصات محسوبة على المعارضة تدعي أنها حقوقية وما أخر التنفيذ العدوان الإسرائيلي على لبنان!
الآن، نحن أمام انقلاب تركي على كل التوافقات السابقة، على الرغم من أن أنقرة فضلت الحفاظ على مسافة ما بينها وبين ما يجري، لكن من المؤكد أن إطلاق عملية بهذا الحجم ما كان ليتم إلا بغطاء وإسناد تركيين أكيدين، وبذا نحن أمام خيارات ثلاثة: الأول منها يقول بوصول موسكو وأنقرة إلى تفاهم سريع لوقف ما يجري، والثاني أن تذهب الأمور باتجاه عملية عسكرية واسعة سوف تؤدي إلى دمار كبير بما لا يرغبه الطرفان السوري والروسي، أما الثالث فيقضي بإمكان الوصول إلى توافق أميركي- روسي وهو أمر صعب قبيل أن تستلم الإدارة الجديدة لمهامها شهر كانون ثاني المقبل.
من المؤكد هو أن روسيا تنظر إلى وجودها العسكري في سورية من ناحية استراتيجية بعيدة المدى، وهي لن تقبل على الإطلاق بتبديل يحصل على موازين القوى القائم منذ العام 2020 يكون من شأنه التأثير سلباً على ذلك الوجود ووظيفته، ولربما يمكن الترجيح أن الخيار الروسي لتحقيق ذلك سوف يكون باتباع دبلوماسية ضاغطة على مسار التقارب السوري- التركي الذي يشكل ضمانة للحد من مخاطر انفلات الوضع الأمني في الشمال السوري، والذي قد يشكل عاملاً محفزاً لتكرار «نموذجه» في مناطق أخرى.
نحن أمام أيام مفصلية، فإما أن يتم احتواء «الخرق» بصورة سريعة، وبدعم وإسناد من الحلفاء والأصدقاء، وخصوصاً روسيا، وتماماً كما حدث في أيلول 2015، وإما أن البلاد ستصبح أمام احتمالات بالغة الصعوبة.
ومع مؤشرات الميدان في الساعات الأخيرة، واستعداد الجيش السوري لمباشرة هجومه المضاد، بعد أن امتص اندفاع الإرهابيين، عاد اتجاه البوصلة نحو دفع الاطمئنان إلى قلوبنا.
كاتب سوري
أخبار سورية الوطن ١_الوطن