| عامر نعيم الياس
شكّل الانفتاح العربي على سورية تطوراً جديداً خرق المشهد العام المجمّـــد للأزمة في سورية على المستويين السياسي والدبلوماسي على وجه الخصوص، وإذ لا يمكن اختصار المشهد الحالي بانفتاحٍ عربيٍّ على دمشق فقط، بل توجد بوادر انفتاحٍ أوروبيّ أيضاً أقلّه على المستوى الإنساني والدخول من بوابة الدبلوماسية الإنسانية، إلا أن الانفتاح العربي متعدّد المسارات هو ما يفرض التركيز عليه بوصفه مقدّمةً لانفتاحٍ أوسع وتكريس أمر واقعٍ لا يمكن تجاوزه.
قد يرى البعض أن الدول العربية منضبطة بالسياسة الأميركية إلى الحدود القصوى، كما أن التوازنات داخل الجامعة العربية، قيّدت حركة الدول التي أصرّت على تمييز موقفها من سورية وما جرى من حربٍ عليها كالجزائر على وجه الخصوص، لكن لا يمكن إنكار أن تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية، كان المدخل الضروري والأساسي للخطوات اللاحقة التي اتخذها محور الولايات المتحدة والمحور الخليجي بقيادة قطر حينها ومن ثم السعودية، والمحور الإقليمي بقيادة تركيا التي توكلت أمر جهاديي الغرب وأمنت الممرات لهم للدخول إلى سورية، وإعلان الحرب على البلاد والعباد، حرب تدميرٍ شاملٍ هدفت في أولى مراحلها إلى تدمير الدولة السورية وتغيير تركيبتها بما بتوافق مع الرهانات الأطلسية والأميركية.
إذاً، وكما شكل الموقف العربي الخطوة الأساس لتمرير مشروع التدمير وسياسات العزل والمقاطعة، فإنه بطبيعة الحال سيشكل المدخل الإلزامي، لكسر العزلة عن سورية، لذلك لحظنا خلال الأعوام الثلاثة الماضية ضغطاً أميركياً واضحاً منع الانفتاح الإماراتي السياسي على سورية، والانفتاح الأردني أيضاً عبر ورقة «خريطة طريق الحل السياسي» التي طرحها الملك عبد الله الثاني خلال لقاءاته المسؤولين الأميركيين حينها قبل عامين.
في ضوء ما سبق يُطرح تساؤلٌ حول ديمومة مسار الانفتاح العربي على سورية، في ظل التجارب السابقة للانفتاح التي توقفت بضغطٍ أميركيّ؟ كما يُطرح تساؤلٌ حول طبيعة الانفتاح العربي ومساراته؟
قبل الإجابة عن التساؤلَين السابقين المترابطَين، لا بدّ من الإشارة إلى تطوّراتٍ مرافقة للمشهد الحالي تجاه سورية:
– أولاً، «دبلوماسية الزلازل» أو «دبلوماسية الكوارث»: وهو مصطلحٌ استخدمه الإعلام الأميركي والغربي بشكلٍ مركز خلال تغطيته لأخبار الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا في 6 شباط الحالي، وهنا، قد يرى البعض، أن الاستخدام لهذا المصطلح، جاء في سياق رسم إطار التحركات السياسية تجاه سورية، وهي تحركات عربية فاعلة وملموسة، لكن الأساس في استخدام هذا المصطلح يأتي للتخلص من الضغط الذي بدأ يتشكل على الولايات المتحدة والدول الأطلسية جراء العقوبات والحصار المفروضين على سورية، وتبرير الخطوات اللاحقة التي اتُخذت لتخفيف هذه العقوبات من واشنطن، والتي تلتها خطواتٌ من جانب الاتحاد الأوروبي تندرج في سياق الأمر ذاته الذي أصدرته وزارة الخزانة الأميركية ومدّته ستة أشهر.
– ثانياً، الرعاية الروسية لمفاوضات إحداث خرق في العلاقات التركية السورية، وهو ما يصطلح عليه التقارب السوري التركي، بغض النظر عن مديات التقارب وأسبابه، والخوض في نيات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلا أن تحريك المياه الراكدة في مشهد العلاقات التركية لسورية، ووجود استعداد لدى أنقرة لتغيير موقفها من سورية خارج سياق أيّ توجيه أميركي بهذا الخصوص، بات أمراً واقعاً ينتظر بدوره جملةً من التحركات المستقبلية، بمعنى أن التفاوض السوري التركي وُضع على السكة ولا يمكن في المدى المنظور العودة إلى عنوان الصدام السوري التركي والعداء المستحكم الذي سيطر على الخطاب السياسي بين البلدين ما بعد عام 2011.
– ثالثاً، العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا وتطورها إلى مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا الاتحادية، وهذه الحرب التي قسمت العالم، وأجّلت اتخاذ العديد من الدول موقفاً نهائياً في العديد من الملفات بانتظار نتيجة الحرب أو صورة المشهد الحقيقي التي من المتوقع أن تبدأ في التبلور ربيع عام 2023، كما وفرت هامش حركةٍ لبعض الدول، مثل موقف السعودية والإمارات في اجتماعات «أوبك بلس» الذي أتى ضد الرغبة الأميركية، يمايزها عن السياسة الأميركية.
– رابعاً، استعادة الدولة السورية سيطرتها على أغلبية أراضي الجمهورية، وانتهاء أيّ توجّــه غربي لإحداث أو الرهان على تغييراتٍ ميدانيةٍ كبرى، بل الاعتراف بأن الحل الأمثل ميدانياً هو التجميد الذي ساد منذ عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وهذا التجميد الميداني الذي إن مسّ بشكلٍ مباشر جهود الدولة السورية لاستعادة أراضيها المحتلة، إلا أنه فرض على الطرف الآخر معادلة أمر واقع تتجلى بعدم انهيار الدولة في سورية، وسيطرتها على الجزء الأكبر من الأراضي ذات أعلى كثافة سكانية، وبالتالي طرح الأمر تساؤلاتٍ حول جدوى استمرار سياسات الحصار والعقوبات ونبذ الدولة السورية ومقاطعتها، في ظل سقوط المحرّك الأكبر لما سبق وهو العامل الميداني، والدفع باتجاه وقف ما يسمى «العمليات العسكرية الكبرى».
انطلاقاً من العوامل السابقة، يمكن القول إن الانفتاح العربي على سورية ليس انفتاحاً يجري وفق مسارٍ واحد، فكما الدول العربية انقسمت في مواقفها من الحرب على سورية، هكذا يجب مقاربة مسألة الانفتاح، وعليه يمكن رصد المسارات التالية:
– المسار الأول: سلطنة عمان والإمارات والجزائر: الدول الثلاث عملت على الحفاظ على مستوى علاقاتٍ مع سورية في السنوات الـ11 من عمر الحرب على سورية، متمايز عن باقي الدول العربية، لكن هذا المستوى راعى والتوازنات داخل جامعة الدول العربية، والأهم الموقف الأميركي المعادي لسورية، فالأساس فيه كان عدم استجلاب غضبٍ أميركيّ على هذه الدول.
– المسار الثاني: مصر والأردن: وإن كان الأخير ساهم بشكلٍ مباشر في «غرفة عمليات الموك» نظراً للجغرافيا وقوة الضغط الأميركي والخليجي على عمّان، إلا أن مصر والأردن لم تسيرا في العداء إلى نهايته، كما قطر، لكنهما انضبطتا في مواقفهما على وقع السياسة الأميركية من سورية، مع لحظ أن التمايز المصري اتخذ صورته وحركته بعد انهيار حكم جماعة «الإخوان».
– المسار الثالث: السعودية، فموقف الرياض من سورية يستند إلى عاملين يميزانه عن مواقف الدول السابقة، هنا التمايز يعني بالضبط المساهمة في بناء السياسة العامة للدولة تجاه حدثٍ ما، وهذان العاملان هما: الانضباط في السياسة الأميركية، وهو عامل مشترك مع الدول آنفة الذكر في المسار الثاني، والعامل الثاني الموقف من إيران والصراع متعدد الجبهات معها في لبنان واليمن، وهذا الموقف الذي يعد أساساً في توجيه السياسة السعودية الخارجية.
المسارات السابقة أفضت إلى حركةٍ متعددة وهو أمرٌ طبيعيّ، فالإمارات دشّنت الزيارات الرسمية العربية إلى سورية قبل الزلزال، والرئيس بشار الأسد زارها في أول محطة عربية له قبل الزلزال، وهي اليوم تقود مساراً واضحاً لكسر العزلة عن سورية، وكسر الحصار عنها، فالطائرات الإماراتية لا تتوقف عن الهبوط في المطارات السورية، والإمارات هي أكثر دولة قدّمت مساعدات للشعب السوري.
الزيارة التي قام بها الرئيس الأسد إلى سلطنة عمان على مستوى كبير من الأهمية، وهنا أترك التعليق لصحيفة «لوموند» الفرنسية على الزيارة حيث قالت حرفياً: «هذه الزيارة التي استغرقت بضع ساعات هي عتبة جديدة تم تجاوزها في النشاط الدبلوماسي العربي الذي بدأ في دمشق منذ الزلزال»، وأضافت: «هذا الاجتماع مهم بسبب دور عمان كوسيط، والسلطنة هي المطبخ السري لاتفاقيات المصالحة الإقليمية، وعُمان لديها ثقة إيران والولايات المتحدة».
في ما يخص الأردن، وهو المحسوب على المسار الثاني، قام نائب رئيس الوزراء الأردني ووزير الخارجية أيمن الصفدي والمقرب من الملك عبد الله، بزيارةٍ رسمية هي الأولى لمسؤولٍ أردني منذ عشرة أعوام، وجاء حرفياً على لسانه أثناء وجوده في دمشق: «علاقاتنا الثنائية والجهود المبذولة لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية ينهي هذه الكارثة… حلّ يحفظ وحدة سورية وسيادتها ويعيد أمنها واستقرارها ودورها… ويهيّئ ظروف العودة الطوعية للاجئين، ويُخلّص سورية من الإرهاب الذي يشكّل خطراً علينا جميعاً».
ما سبق في تصريح وزير الخارجية الأردني يشكل مدخلاً في بعضٍ مما ورد فيه لتصريحاتٍ مهمة أدلى بها في مؤتمر ميونيخ للأمن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود، حيث قال إن «إجماعاً بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سورية، وأن الحوار مع دمشق مطلوب في وقتٍ ما»، وأضاف: «سترون أن إجماعاً يتزايد، ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي بل في العالم العربي، على أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار»، مشدداً على أنه «في ظلّ غياب سبيل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حلٍّ سياسي، فإنه بدأ يتشكل نهجٌ آخر لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار، ومعاناة المدنيين، خاصةً بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سورية وتركيا»، وتابع: «لذلك، ينبغي أن يمر ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق في وقتٍ ما، بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الأكثر أهمية، خاصةً فيما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين وما إلى ذلك».
يلتقي التصريحان لوزيري خارجية السعودية والأردن حول ضرورة وجود مقاربةٍ جديدةٍ لحل الأزمة السورية، ويمهد وزير خارجية سعودية، أو بالأحرى يدعم ضمناً التحركات الخليجية تجاه سورية، فيما يركز على المدخل الإنساني، وهو المدخل المناسب للتملص من ضغط واشنطن في ما يخص الحوار مع «حكومة دمشق» حسب تعبيره.
طبعاً هذا لا يعني تلاقي الجهدين الأردني والسعودي، بل إن مسارات الانفتاح العربي آنفة الذكر، معطوفةً على مشتركات الخطاب الدبلوماسي العربي تجاه سورية، والعوامل المتغيّرة منذ عامين حتى الآن، أي العامين الماضيين اللذين شهدا عرقلة واشنطن الانفتاح الإماراتي على سورية، ورفضها لـ«خريطة الحل السياسي» التي طرحها الملك الأردني عبد الله الثاني، كل ما سبق يشير إلى حراكٍ دبلوماسي بمسارات منفصلة تلتقي على هدف الحوار مع الحكومة السورية ومقاربة الملف السوري بواقعيةٍ سياسية، عبر ما يمكن الاصطلاح عليه مسار الوساطات المتشابكة، والحوارات غير المباشرة ونقل الرسائل بجميع الاتجاهات تمهيداً لإحداث الخرق المرجو في صورة المشهد العربي من سورية، وهذا المسار ليس مؤقتاً ربطاً بالعوامل السابقة بل هو مسار تلاقيه الدولة السورية بدبلوماسيتها المعهودة وتعمل جادةً على الدفع به إلى حدوده القصوى.
سيرياهوم نيوز1-الوطن