د. بسام أبو عبد الله
أثار حديث الرئيس بشار الأسد قبل أيام أمام اللجنة المركزية لحزب البعث، حول دروس الحرب والعدوان على غزة، أسئلة بقدر ما قدم إجابات واضحة وشفافة حول الموقف السوري الذي يفترض بأي عاقل ألا يكون لديه شك بشأنه، ولكن كلام الرئيس الأسد قطع الشك باليقين، عندما قال: إن غزة تدافع بصمودها عن سورية، أي إن مقاومة الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وصموده، كشفت كثيراً من الحقائق، وأعطت العديد من الدروس المستفادة لنا في سورية والمنطقة والعالم.
لطالما كانت سورية عبر تاريخها الطويل الحاضن والداعم لنضال الشعب الفلسطيني، على الرغم مما واجهته في مراحل تاريخية عديدة من إنكار وطعن في الظهر من قيادات فلسطينية عديدة، ومختلفة الاتجاهات الأيديولوجية، لكن بوصلتها لم تخطئ، ولم تتعاطَ مع قضية فلسطين من منطلق سلوكيات هنا، وجحود وإنكار هناك، ففي عز الحرب الفاشية التي شنت ولا تزال على سورية كدولة وشعب، قال الرئيس الأسد: إن فلسطين قضيتنا المركزية، وسورية مستمرة بدعم المقاومة الفلسطينية ما دامت بندقيتها موجهة نحو الاحتلال الصهيوني، بمعنى أن دمشق لديها ثوابت ومبادئ لا تتخلى عنها، وأحدها هو دعم حركات المقاومة عالمياً، فكيف الأمر فيما يخص دول المنطقة، وبلاد الشام أو المشرق العربي خاصة، فالأمر هنا يتعلق بالأمن القومي لبلدنا بوضوح شديد.
دعوني أوضح هذه النقطة بعمق أكبر، لأطرح السؤال بهذه الطريقة: سورية وفلسطين، مَنْ يحمي مَنْ؟
وللإجابة عن هذا السؤال سأطرح النقاط التالية:
1- سورية تحمي فلسطين: نعم لقد حمت سورية فلسطين وقضيتها العادلة عبر تاريخ هذا الصراع سواء باحتضان حركات المقاومة على اختلاف مسمياتها، وتأمين الإقامة والنشاط السياسي والإعلامي ومعسكرات التدريب، أم من خلال تسخير جزء مهم من دبلوماسيتها وأدواتها لخدمة هذه القضية المركزية، وكان موقف الرئيس الأسد الشجاع في صيف عام 2003 عندما رفض شروط وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول بعد احتلال العراق في ذلك العام، والتي كان من أهمها: إغلاق مكاتب حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية في دمشق، وطرد قياداتها، وهو ما رد عليه الرئيس الأسد بالقول: لن يخرج هؤلاء من دمشق إلا إلى أرضهم، أي فلسطين، الأمر الذي مهد تدريجياً لتصعيد الضغوط، والعقوبات، والحصار منذ ذلك العام على سورية من الغرب الجماعي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وصولاً لعام 2010- 2011، حيث قادت أميركا وأدواتها حربها الفاشية- الإجرامية على سورية، ولا تزال.
هنا جاء صمود سورية، شعباً وجيشاً وقائداً، سوراً لحماية قضية فلسطين، وظلت دمشق حضنها الدافئ، ولو سقطت دمشق لضاعت قضية فلسطين بالمطلق، وتمت تصفيتها، ليس من باب التقليل أبداً من شأن النضال الفلسطيني، الذي هو الأساس، ولكن لأنك عندما تفقد سندك الأساسي ستفقد العمق والقدرة على التحرك والمناورة، كما ستفقد الجدار القوي الذي يؤمن بمبادئ ليست متوافرة في زمن الليبرالية الجديدة، وزمن الميوعة، وسقوط القيم والانتماء والهوية.
حتى عندما أخطأت قيادات من حماس فغلبت إخوانيتها على فلسطينيتها، فإن هذا الخيار سقط مع مرور الزمن، ذلك أن أولئك الذين راهنوا على قطر وتركيا، اكتشفوا أن الأمر ليس إلا سراباً، وأن هذين البلدين لن يكونا حضناً دافئاً لفلسطين، بل هما يستخدمان فلسطين ورقة للتجارة، والمساومة السياسية، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان سقط في امتحان غزة سقوطاً سريعاً، وقطر نعرف جميعاً، وباعترافها أنها تقوم بدور وظيفي مكلفة به أميركياً!
قد يكون الأمر مبرراً من باب التكتيك، والاستفادة السياسية من دور كلا البلدين، لكن عندما يتعلق الأمر بالمقاومة ومواجهة إسرائيل، فالواضح تماماً أنهما ليسا إلا واجهتي نفاق وكذب حين تحق الحقيقة، وأحداث غزة كشفت وأسقطت هذين القناعين.
إذاً، بقاء سورية وصمودها وتمسكها بثوابتها، والأهم وجود قائد سياسي حكيم وصلب، لم يحول سورية إلى خنجر في ظهر فلسطين، على الرغم من الخناجر الإخوانية التي أصابت سورية في ظهرها طوال عقد من الزمن وأكثر، بل بقي السيف الدمشقي ممشوقاً داعماً، ومتمسكاً، وحاضناً لفلسطين وقضيتها ومقاومتها، ولم يُصب هذا السيف الصدأ، ولم تتحول بوصلته بالطريق الخطأ.
القضية باختصار: نحمي بعضنا بعضاً من دون منةٍ ولا مزايدات، لأن مستقبلنا معاً، كما ماضينا وحاضرنا.
2- فلسطين تحمي سورية: نعم إن مقاومة غزة والضفة الغربية وعموم فلسطين حمت سورية، لكن هنا يطرح السؤال: كيف؟
* أسقطت المقاومة الفلسطينية في غزة، وفلسطين عامة، كل منتجات ما سُمي «ربيعاً عربياً»، خاصة المصطلحات المذهبية التي قسمت المجتمعات العربية والدول، وحاولت تحطيم وعي الشباب، وجرّهم إلى مستنقع لن يخرجوا منه، والسؤال هنا: أين يا ترى شيوخ ومفتو الـ«ناتو»، الذين لم تكن لديهم قدرة على الاجتهاد الديني إلا تجاه سورية، ورئيسها؟ أين هم تجاه غزة، والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني؟
الجواب: لا أحد، صمت مطبق، بلعوا ألسنتهم، اختفوا عن الشاشات، ابتلعتهم الأرض!
* أسقطت المقاومة الفلسطينية في غزة الجناح الآخر لـ«الربيع العربي»، أي لأولئك المثقفين التافهين، وبعض اليسار من منتجات جورج سوروس، ومدّعي الديمقراطية والحريات، وحقوق الإنسان، ومنتجات العثمانية الجديدة وغيرها ممن فرختهم ما سمي «ثورة سورية»، أين هم الآن؟ لماذا اختفوا عن الشاشات ومواقع التواصل؟ ولماذا توقفت مؤتمرات أصدقاء سورية وداعمي حرية الشعب السوري؟ ولماذا لم نرَ منهم تحركاً واحداً، أو مؤتمراً واحداً، أو تظاهرة واحدة لدعم غزة، ودعم الشعب الفلسطيني؟ أم إن هذا شرط مسبق وضعه الغرب الجماعي لهم كي يجلبهم لحكم سورية كما توهموا!
لماذا لا يشتمون نتنياهو، وحكومته الفاشية؟ ولماذا لا يصدرون فتاوى بالجهاد ضده، وضد جيشه المجرم، أم إن الشتيمة تجوز علينا فقط، وعلى رئيسنا وبلدنا؟
لا أحد يظهر، ولا أحد يتحدث، ولا أحد يدين، أين أنتم يا دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أين منظماتكم ودكاكينكم ومراصدكم الخاصة بحقوق الإنسان؟ أين مرصد رامي عبد الرحمن الذي كانت تزوده الاستخبارات البريطانية بكل تفصيل في سورية؟ فلماذا لا تزوده الآن بما يُرتكب في غزة، وفلسطين؟ أم إن استخبارات رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك مختصة بسورية فقط!
بهذا المعنى فإن غزة وفلسطين أسقطت كل تلك المقولات، والأدوات، وجيوش المرتزقة والإرهابيين والأنظمة والمنظمات التي صدعت رؤوسنا طوال 13 عاماً بالشعارات، والنفاق والدجل، فانكشفت عارية مع سقوط آخر أوراق التوت، وظهر للجميع أن الحرب على سورية طوال عقد من الزمن كانت تستهدف فلسطين، وقضية شعبها ومقاومتها، كما هو الأمر في العدوان على غزة التي إن سقطت مقاومتها فسيأتي الدور علينا واحداً تلو الآخر، ولو سقطت سورية لكان الدور سيأتي على الجميع، وهكذا.
إن عدوان تموز 2006 كان هدفه تدمير المقاومة في لبنان للانتقال إلى سورية، ثم انتقلوا إلى إيران 2008- 2009، وعادوا إلى غزة ست مرات لكسر مقاومتها، ثم ذهبوا إلى سورية منذ عام 2011 حتى الآن لقناعتهم بأنها عمود محور المقاومة، وكسره أساسي لكسر كل حلقات هذا المحور.
ولأنني ركزت على نقطة كيف حمت غزة سورية؟ فإن العلاقة بين مَنْ يحمي مَنْ واضحة، ويجب أن نفهمها هكذا، لقد حمينا فلسطين طوال عقود ولا نزال، لكن غزة الصغيرة المساحة، والكبيرة الفعل والأثر، حمت سورية والمنطقة من مستنقع الربيع العربي الآسن، من حروب الطوائف والمذاهب، من التدمير الذاتي الذي ضرب المنطقة بجهاتها الأربع، ومن هنا لا حل أمامنا سوى أن نحمي بعضنا بعضاً، وأن ندرك أن لا خلاص لطرف بخفض رأسه أمام ما يحدث، فالجميع مستهدف بمن فيهم أولئك الذين عاشوا وهم الانبطاح والعمالة، واعتقدوا أنه بتحالفهم مع الكيان الصهيوني سينجون برؤوسهم، وهذا وهم أسقطته غزة وفلسطين، وتبين لهؤلاء جميعاً أن الاتفاقيات لا تحمي، ولا تضمن.
مستقبل المنطقة لن يضمنه طرف واحد، إنما ستضمنه مقاومة شعوبه وصبرها وثباتها ودماء شهدائها وآلام جرحاها، هكذا علمنا تاريخ الشعوب والأمم، وهكذا تعلمنا من تجاربنا التي دفعنا ثمنها غالياً في سورية وفلسطين ولبنان وكل المنطقة، والمستقبل يكون بأن نحمي بعضنا بعضاً، ونخرج من قوقعة الانغلاق والسطحية.
كاتب سوري
سيرياهوم نيوز1-الوطن