آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » سياسةُ التراجعِ الأمريكي تحلُّ محلَّ استراتيجيةِ التوسع

سياسةُ التراجعِ الأمريكي تحلُّ محلَّ استراتيجيةِ التوسع

 

كتب الدكتور المختار

 

 

ملامحُ النظامِ العالمي الجديدِ ترتسمُ والمرحلةُ المقبلة ستكونُ مفصليّةً ونقطةَ تحوّلٍ تاريخيةً تؤرخُ لما قبلَها وما بعدَها.

 

لا نقصدُ عندما نتحدثُ عن التغييرِ أنَّ شكلَ النظامِ العالمي سيتغيرُ بسنةٍ أو عدةِ سنواتٍ بل غالباً ما يأخذُ مخاضاً طويلاً قد يستمرُ عشراتِ السنواتِ،

 

فمؤشراتُ الحربِ العالميةِ الأولى بدأت عامَ 1882م واستمرّت إرهاصتُها بين تحالفاتٍ وتناقضاتٍ دوليةٍ حتى العام 1914م حيث وصلَت التسوياتُ بين القوى العظمى — على تركةِ الرجلِ المريضِ (الدولة العثمانية) — إلى طريقٍ مسدودٍ وأصبحَ لابديلَ عن الحربِ وقامَت الحربُ العالميةُ الأولى ( 1914 – 1918) ونتجَ عنها شكلُ العالمِ الجديدِ في حينِها ووُضعَ ميثاقُ عصبةِ الأممِ الذي يضمنُ للقوى العظمى مصالحَها، لكنه لم يرض الجميع.

 

وبمجرّدِ انتهاءِ الحربِ العالميةِ الأولى بدأَت بذورُ التحضيرِ للحربِ العالميةِ الثانيةِ مخاضاً استمر حتى (1939 — 1945م)، والتي انتهَت بالاستسلامِ الألماني — الياباني للحلفاءِ، وتشكّلَ العالمُ الجديدُ بتقاسمِ النفوذِ بين المعسكرين الغربي “حلف الناتو” والشرقي “حلف وارسو”، وبدأت الحرب الباردة إثر هذا التقاسم واستمرَّت حتى بدأت ملامح انهيار المعسكر الشرقي بسقوط جمهورية رومانيا الإشتراكية بزعامة نيقولاي تشاوشيسكو في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1989، وتفكك جمهورية يوغسلافيا الاتحاية إلى عدة دول عام 1991، وبعدها انهيارِ الاتحادِ السوفييتي 1991م.

 

واليومَ نعيشُ مخاضاً بدأ منذ العام 1991 إثرَ انهيارِ الاتحادِ السوفييتي وتشكّلَ القطبُ الواحدُ الأمريكي الذي انطلق صعوداً ساعياً إلى الهيمنة وإلغاء الجميع.

ويبدو أنَّ نتائجَ هذا المخاض الذي بدأ منذ أكثر من ثلاثين عاماً باتت قريبة، لأنَّ المتابعَ يرى تراجعاً في الصعودِ الأمريكي الذي يسيطرُ على القرارِ العالمي، وأنا أرى أنَّ الإمبراطوريةَ الأمريكيةَ وصلَت إلى أعلى نقطة في قمةِ السيطرةِ ليلةَ 11 أيلول/ سبتمبر 2001م وبدأَ الخط البياني بالنزول بطيئاُ منذ ذلك اليوم.

 

يكمننا تلمُّس ذلك النزول من خلال رصد المصطلحاتِ التي تُستخدمُ لتوصيفِ الأحداثِ السياسيةِ العالميةِ ونستنتج منها متى بدأ مؤشرُ الخطِ البياني يشيرُ إلى التراجعِ بدلاً من التوسع.

 

— بعد أحداثِ 11 أيلول/سبتمبر 2001 “المفتعلة” أعلنَ الرئيسُ الأمريكي جورج W بوش الحربَ على العالمِ قائلاً بكل غطرسة: “من ليس معنا فهو ضدنا”

وبدأَ مشروعَ التوسعِ وفرضَ سيطرةَ القطبِ الواحدِ الأمريكيةِ باحتلالِ أفغانستانَ واحتلالِ العراقِ، وفرضَ الخيارَ والنموذجَ الأمريكي على العالمِ واستمرَّت هذه الحالةُ بالتصاعدِ حتى العام 2011م، وكان مراداً من الربيعِ العربي تكريسُ تلك السيطرةِ، ومقدمات للحربُ على سوريةَ للقضاءِ عليها كآخرِ القلاعِ التي تقفُ عثرةً في وجهِ الاستباحةِ الأمريكيةِ التامةِ للشرقِ الأوسطِ.

 

لكن من سوريةَ بدأ التغيّرُ، ومن هنا نلحظُ بدءَ التبدّلِ بنمطِ المصطلحاتِ التي تحملُ مضامينَ التوسع.

 

بدأَ استخدامُ المصطلحاتِ التي تحملُ مضامينَ تفيدُ بالتراجعِ، واستخدامُ هذه المصطلحاتِ التراجعيةِ لم يكن مقصوداً بقدرِ ما هو توصيفٌ لوقائعَ حقيقيةٍ حصلَت يُقرأُ منها التراجعُ فلنرى كيف بدأَ التحولُ.

 

— حُشدَ للحر.بِ على سوريةَ من القوى والإمكانياتِ ما يصحُّ أن نسميه حر.باً عالميةً وبسقفِ مطالباتٍ عالٍ جداً، ومع استمرارِ سنواتِ الحر.بِ وبفعلِ الصمو.دِ السوري شاهدنا مسلسلَ التراجعِ في الشروطِ والمطالباتِ من إسقاطِ النظامِ، إلى تغييرِ سلوكِ النظامِ، وهذا باتَ معروفاً للجميعِ، وكان صمودُ سوريةَ واستعصاءُ تحقيقِ العد.وانِ أهدافَه هو من فتحَ البابَ مشرعاً لتراجعِ سقفِ المطالبِ الأمريكيةِ والغربيةِ وفتح الباب لعودة الدور الروسي إلى الساحة الدولية، ونحن مقبلين على تراجعاتٍ في المطالباتِ لسورية، وعلى انفراجات كبرى باتت قريبة.

 

— في الحربِ على غ.زّ.ةَ شاهدنا كم كان سقفُ المطالبِ عالياً، وهي أمريكيةٌ أكثرُ منها إ.سر.ائيلية، وفشلَ الهجو.مُ بتحقيقِ أهدفه رغمَ الغطاءِ الدولي لإ.سر.ائيلَ ودعمِها المطلقِ عسكر.ياً، وشاهدَنا كيف بدأ سقفُ الأهدافِ بالتراجعِ، وكيف أصبحَ الغربُ الاستعماري يتحدثُ عن حلِّ الدولتين وهو تراجعٌ وعودةٌ الى أصلِ القضيةِ بعد أن اعتقدوا أنَّها قد نُسيَت ودُفنَت بفعلِ التطبيعِ والاتفاقاتِ الإبر.اهيمية.

 

— لاحظوا المصطلحاتِ التي تستخدمُ في المواجهةِ في البحرِ الأ.حمرِ وكيف أنَّ الخوفَ من توسعِ المواجهةِ مع أ.نصا.رِ اللهِ هو العاملُ الأساسي حتى الآن، وكيف أذلّت اليمنُ التحالفَ الأمريكي والبريطاني ودمرت أكثر من مئة قطعةٍ بحرية، علماً أنَّ هناك تعتيماً غربياً هائلاً على حجمِ الخسا.ئرِ التي يتكبدوها.

 

— لاحظوا في 2006م كيف أقامَت إسرائيلُ حرباً شاملةً على لبنانَ من أجلِ خطفِ ثلاثةِ جنود.

في حين خسرت الآن الآلافَ بين قتيلٍ وجريحٍ من جنودِها ودُمرَت جميعُ منشأتِها العسكريةِ على الحدودِ الشماليةِ وفي غلافِ غ.زّ.ةَ وهي مازالت تستخدمُ التهديدات من جهة، وترسلُ المبعوثين للتفاوضِ مع الم.قا.ومةِ اللبنانيةِ من جهة أخرى، أليس هذا تراجعاً آخر.

 

— عندما نتحدثُ عن العراقِ نرى الفارقَ والتراجعَ في المصطلحاتِ منذ غز.وِ العراقِ 2003م حتى الآن، فكانَ الحديثُ عن احتلا.لِ العراقِ وحكومةِ بريمر، وفرضِ نظامٍ عسكر.ي أمريكي على العراقِ 2003م، وكيف تمَّ التراجعُ والا.نسحا.بُ العسكري من العراقِ واستُبدلَ ببعضِ الاتفاقياتِ للمحافظةِ على بقاءِ بعضِ القواعدِ. فلنقارنَ ذلك مع المصطلحاتِ التي يتمُّ تداولُها الآن ومضمونُها التراجعُ والتي تتحدثُ عن دراسةِ خطةِ الا.نسحا.بِ الأمريكي من العراقِ.

مثال: المصطلحاتُ التي استخدمَها الأمريكي بعد أن ق.صفَت طائر.ةٌ مسير.ةٌ تابعة للم.قا.ومةِ العراقية قاعدةِ التنفِ وأدّت إلى مق.تلِ 3 وجر.حِ 40 وكان التصريحُ لن نتركَ العمليةَ من دونِ ردٍّ ولكن لا نرغبُ بتوسّعِ الحر.بِ. قارنوا هذه اللغةَ مع لغةِ الغطرسةِ التي كانت تُستخدمُ 2003م.

 

أما على الجبهةِ الروسيةِ فكانت الخطةُ الأمريكيةُ تهدفُ إلى تطويقِ روسيا وإنهائها بعد انهيارِ الاتحادِ السوفييتي عبرَ ضمِّ أربعِ دولٍ إلى حلفِ الناتو وهي جورجيا وأوكرانيا وبولندا ولاتفيا، خلافاً للتعهدِ الأمريكي الذي قطعَته الإدارةُ الأمريكيةُ للرئيسِ السوفييتي ميخائيل غورباتشوف عند حلِّ الاتحادِ السوفييتي 1991م حيث تعهدَت ألا تضمَّ دولُ أوروبا الشرقية إلى الناتو وقد كتبَ التعهدَ ووقعه جيمس بيكر وزيرُ الخارجيةِ الأمريكي، وأقرَّ بذلك عندما سُئل عنه بعد سنوات عدّة. لكنَّ الذي حصلَ هو العكسُ وتمّت إهانةُ روسيا بأن ضمّوا دولَ رومانيا وبولندا، ورفضَ الرئيسُ بوتين ذلك وتحدّثَ في ميونخ 2007م أنَّه لن يقبلَ بجلبِ الصواريخِ إلى حدودِه، وقال نحن اتفقنا ألّا تُضمَّ دولُ الاتحادِ السوفييتي إلى الناتو، وقرّرَ ردَّ الإهانةِ بعدما شاهدَ الانتقاصَ من شأنِ روسيا من قبلِ الغربِ وهدّدَ باحتلالِ جورجيا 2008م التي كان رئيسُها ميخائيل سكاشفيلي الذي درسَ في أمريكا وتشرّبَ أفكارَ الغربِ، ووصلَت الد.با.باتُ الروسيةُ إلى حدودِ العاصمةِ تبليسي ورُبِّضت المد.افعُ باتجاهِها فقامَ الرئيسُ الفرنسي ساركوزي آنذاك بزيارة الكرملين وتراجع الغرب وتمَّ الاتفاقُ على عدمِ ضمِّ جورجيا، ثم أعادَ الغربُ اللعبةَ نفسَها في أوكرانيا 2014، وانفقَت ملايين الدولاراتِ على ذلك وهذا الاستفزازُ الثاني لأنَّ السيطرةَ على أوكرانيا تعني خنقَ روسيا جيوسياسياً كونها تبعدُ عن العاصمةِ الروسيةِ 150 كم. وتاريخياً كلُّ الجيو.شِ التي ها.جمَت روسيا دخلَت من السهولِ الأوكرانيةِ.

ثم حصلَ الاستفزازُ الثالثُ 2021م والذي أدّى الى العملية الع.سكرية على أوكرانيا، ونشهدُ اليومَ التراجعَ الغربي الكبيرَ عن دعمِ أوكرانيا وبدءَ الاقتناعِ باستحالةِ انتصارِ أوكرانيا على روسيا.

 

وفي المقلب الآخر فعين الصين على تايوان بانتظار ضبط عقارب الساعة على اللحظة الأميركية المواتية.

 

العالمُ يعيدُ تشكيلَ نفسِه وينتقلُ من عصرٍ إلى عصرٍ آخر، والخط البياني الأمريكي في نزول، ونا.رُ الحر.بِ الأهليةِ في الولاياتِ المتحدةِ تحت الر.ماد وو.قو.دُها أصحابُ البشرةِ السمراءِ، وهي تنتظرُ من يُشعلُ الفتيلَ، وإن وصل ترامب أم لم يصل بالحالتين هناك مشكلة والفتيل مؤهل للاشتعال، والولاياتُ الغنيةُ ستنتفضُ طالبة الانفصال عن الولاياتِ الفقيرةِ، والمحركُ الأزمةُ الاقتصاديةُ فأصبحنا في وقتٍ لا أحد مستعد أن يدفع فاتورة أحد، (فيكف إذا كان المبدأ الأمريكي بالأساس كل واحد يدفع عن حالو) وثو.رةُ طلابِ الجامعاتِ في أمريكا والغربِ لم توقظ الوعي على مظلمةِ غ.زّ.ةَ فحسب، بل تعدّتها إلى قراءةِ عميقة للواقعِ المزيفِ وانكشافِ حالة التشظي داخل المجتمع الأمريكي، وانكشاف خديعةِ الحريةِ وطيف واسع من المصطلحات على حقيقتِها.

(سيرياهوم نيوز ١-صفحة الكاتب)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الصهاينة و«مشروع قبرص»

  رأي هشام صفي الدين   «ربما نستطيع أن نطالب الإنكليز بقبرص» من يوميات ثيودور هرتزل، 1 تموز، 1898   يذكر الأب المؤسّس للصهيونية ثيودور ...