| أسعد أبو خليل
تتناول هذه السلسلة الكتاب الجديد لبنيامين نتنياهو بعنوان «بيبي: قصتي»، وهو يتضمّن سيرته السياسيّة وسرديّة اليمين الصهيوني المعاصر. أشرتُ في العدد الماضي إلى أنني لن أشير في الاستشهادات إلى عدد الصفحات لأنني قرأتُ الكتاب في نسخة إلكترونيّة وعدد الصفحات ليس نفسه باختلاف البرامج والإعدادات الشخصيّة للقارئ.
ويتناقض كلام نتنياهو في الكتاب وفي الإعلام، لكن هذا ليس بمستغرب عن سياسي اشتُهر حول العالم بأكاذيبه. فهناك المقطع الشهير الذي سُرّب، في قمّة «العشرين» عام 2011، وفيه يقول ساركوزي هامساً لأوباما عن نتنياهو، من دون أن يعلم أن الميكروفون التقط كلامه: «لا أُطيقه. إنه كذّاب». ويجيبه أوباما: «وأنا عليّ أن أتعامل معه أكثر منك».
يزهو حكّام إسرائيل بديموقراطيّة لا تصل إلّا إلى اليهود حصراً، بل حتى إلى اليهود الأوروبيّين قبل غيرهم، وهي ديموقراطيّة كانت، تاريخيّاً، تستثني حتى المتديّنين من اليهود. وكان نتنياهو يزعم، في الكتاب وأمام وسائل الإعلام عبر السنوات، بأن الانفتاح الديموقراطي في العالم العربي سيعود بالخير على إسرائيل وعلى علاقاتها بالعالم العربي، وبأن التعبير الشعبي الحرّ سيقضي على حالة العداء ضدّ إسرائيل. ويظنّ حكّام إسرائيل – أو يريد حكّام إسرائيل أن يظنّوا – أن حالة العداء هذه هي حالة مصطنعة هندستْها وأدارتْها أنظمة عربيّة مستبدّة. ولا يَفهم نتنياهو، كما لم يُرِد أن يَفهم أيٌّ من زعماء إسرائيل، أن حالة العداء ضدّ إسرائيل، حالةٌ شعبيّة عفويّة، وأن الأنظمة لم تخلقْها، بل على العكس، هي حاولت أن تستوعبها وأن تخفّف من غلوائها. وفي كل الدول التي تفتّحت فيها حريّات التعبير، زاد منسوب العداء ضدّ إسرائيل. ففي تونس مثلاً، وبعد سقوط نظام ابن علي، خاض قيس سعيد حملته الانتخابيّة الناجحة عبر ذمّ التطبيع مع إسرائيل بلغة عربيّة فصحى صارمة. لكن من الواضح في سرديّة نتنياهو أن انفتاح السياسة في أيّ دولة عربية سيتسبّب بكوارث لإسرائيل ومصالحها. يقول نتنياهو إن «الربيع العربي صدمنا». يعترف أن انطلاق التظاهرات في القاهرة، في عام 2011، دفعه إلى تخفيض عدد العاملين في سفارة إسرائيل هناك. لم يَترك في مبنى السفارة إلّا طاقماً صغيراً. وهذا الطاقم أيقظه من النوم في 9 أيلول 2011: لقد تجمّع الآلاف من المتظاهرين المصريّين الغاضبين أمام سفارة إسرائيل في القاهرة، حيث كان طاقم السفارة المحدود يتجمّع في الطابق العاشر. وكان المتظاهرون «مسلّحين» (حسب وصف نتنياهو) بالسكاكين والهراوات والقضبان الحديدية (لم يذكر نتنياهو إذا ما كان المتظاهرون المصريّون يحملون قنابل نوويّة لتهديد أمن الدولة العبريّة). شعر نتنياهو بخطر أكيد على حياة العاملين الموساديّين في السفارة. اتّصل رئيس الحكومة الإسرائيلية بالطاقم المُحاصَر في السفارة، وقال له أحدهم: «لدينا (بنادق) عوزي. سنقاتل حتى النهاية». هذه صورة عن تسليح الديبلوماسيين في السفارات الإسرائيلية في العالم العربي. كيف وصلت «العوزي» إلى هؤلاء الديبلوماسيين؟ طبعاً، نظام السيسي الخاضع لإسرائيل والإمارات معاً لن يطرح هذه الأسئلة ولن يُجري تحقيقات من أيّ نوع.
وكيف يردّ نتنياهو على هذا التهديد الشعبي الحرّ ضدّ وجود سفارة العدوّ التاريخي للعرب؟ طبعاً، عليه أن يشكو أمره للعمّة أميركا كي تأتي لنجدته، مثل كل مواجهة أو تهديد يشعر به حكّام إسرائيل (تماماً كما أن حزب الكتائب استنجد، على مرّ تاريخ الحرب الأهليّة، بالنظام السوري تارة، وبدولة العدوّ تارة أخرى لإنقاذه من هزائم مذلّة). وهذه الحقيقة مُطمئنة: لا يقف بين الغضب الشعبي العربي الفاعل وبين إسرائيل غير أميركا وأنظمتها العربية المُطيعة. في ظلّ حُكم عربي ديموقراطي حرّ، لا يمكن لأيّ سفارة إسرائيليّة أن تبقى على أرض عربية. خذوا مثال لبنان: أَثق أن إسرائيل لن تفتح سفارة في بيروت ولو عُرضَ عليها ذلك من قِبَل حكومة لبنان، لعلمِها أن فصائل وأحزاباً وتنظيمات ومجموعات سريّة وعلنيّة ستتنافس في ما بينها كي تزيل السفارة من الوجود بالكامل. الشعب العربي رافض بأكثريته الساحقة لأيّ وجود للكيان الإسرائيلي، وكل استطلاعات الرأي تؤكّد ذلك، بما فيها تلك المفرطة في التفاؤل التي تُعدّها «مؤسّسة واشنطن».
شعر نتنياهو بخطر ماحق، واتصل على الفور بأوباما ليطلب مساعدته في الضغط على قيادة الجيش المصري. وكانت الحكومة الإسرائيلية تضغط بدورها على القيادة العسكرية المصرية من أجل منْع المحتجّين من دخول مبنى السفارة. كذب نتنياهو على القيادة العسكرية المصرية، وأرسل لها أن هيلوكوبترات إسرائيلية في طريقها إلى القاهرة (وبغباء شديد، صدّقت القيادة التهديد). وتحرّكت على وجه السرعة (لا يَذكر نتنياهو ما ورد في حينه في «نيويورك تايمز»، مِن أن وزيرَي الخارجية والدفاع الأميركيَّيْن اتّصلا بالمشير طنطاوي، وهدّداه بوقْف المعونات العسكريّة والاقتصاديّة إذا لحق أيّ أذى بعملاء «الموساد» في السفارة). وكان المحتجّون على وشك الدخول إلى المعقل السرّي قبل أن تصدّهم القوات المصرية، وتردّهم على أعقابهم وتلقي القبض على قادتهم.
وفي الإشارة إلى حملة إعادة الانتخاب لأوباما في عام 2011، يذكر نتنياهو عَرَضاً كيف أن الرئيس الأسبق خفّف من وطأة «الضغط» على إسرائيل (والضغط الأميركي على إسرائيل هو مجرّد تخفيف العناق والقبلات ليس أكثر، لكن بمقياس العلاقات الأميركية-الإسرائيلية الحميمة، فإن ذلك يُعتبر ضغطاً). في موسم الانتخابات، تنصّل أوباما من كلامه السابق عن تسوية القضيّة الفلسطينية، ونفى أيّ دور مؤثّر لحكومة بلاده، وذكّر بأن المفاوضات يجب أن تُلقَى على عاتق الأطراف أنفسهم، وهو موقف إسرائيل لأنها بحكم قوّة الجيش والقنابل النووية تستطيع أن تَفرض تجميد أيّ تسوية أو عرقلتها. وهذا هو موقف إسرائيل منذ عام 1970 في زمن «مبادرة روجرز». ولا يزال العرب يذكّرون بـ«مسيرة السلام» التي لم تَعُد الحكومة الأميركية تذكرها. لكن مشروع الاستسلام السعودي (يحمل، يا للعار، بصمة «قمّة بيروت») يصرّ على «مسيرة سلام» ترعاها أميركا وتظلّلها قنابل إسرائيل النوويّة. فجأة، اكتشف أوباما، في سنة الانتخابات، أن على الدولة الفلسطينية أن تَضمن أمن الدولة المسلّحة بأسلحة الدمار الشامل، والتي تتعهّد أميركا- إدارةً بعد إدارة – بضمان تفوّقها العسكري ضدّ أيّ مجموعة من الجيوش العربية. فجأة أيضاً، تذكّر أوباما أن دولة إسرائيل ضعيفة وتعيش في ظلّ أدغال من العرب المتوحّشين. قال يومها: «تنظر إسرائيل، وهي دولة صغيرة… وترى عالماً يوجد فيه زعماء لدول كبيرة يهدّدون بمحوها من الخارطة». الغريب في خطاب زعماء أميركا أن إسرائيل تعتدي وتحتلّ وتقتل، لكن أيّ تهديدات ضدّها – حقيقيّة كانت أو مزوّرة من جانب جهاز اللوبي الإسرائيلي الإعلامي – هي وحدها التي تشكّل الخطر على السلام والأمن الإقليميَّين والعالميَّين. والمزعج أن نتنياهو يُظهر جهله في كلّ مرّة يستعرض فيها أمام القارئ الغربي معرفته بالثقافة والتاريخ العربيَّين، فتراه ينسب المثل الصيني «يدٌ واحدة لا تصفّق» إلى الثقافة العربية.
يزعم نتنياهو أنه كان لدى الحكومة الإسرائيلية معلومات استخبارية مفادها أن الحكومة المصرية كانت عازمة على حلّ المؤسّسات الديموقراطية في مصر، وفرْض نظام حكم إسلامي مُتسلّط
وعن الحروب المتوالية ضدّ الشعب الفلسطيني، يزهو نتنياهو بنجاحات «القبّة الحديدية»، ويقول إنها نجحت بنسبة 90%. وهذه الأرقام هي من صنْع جهاز البروباغاندا الإسرائيلي. طبعاً، في الإعلام الغربي ليس هناك من تشكيك في المزاعم العسكرية الإسرائيلية، تماماً كما يغيب التشكيك في المزاعم الخياليّة للجيش الأوكراني عن انتصاراته (لو جمعنا عدد الطائرات التي أسقطها الجيش الأوكراني وعدد القتلى الروس، لكان الرقم بالملايين). وأرقام الحكومة الأميركية عن نجاحات «القبّة الحديدية» لا تتجاوز الـ80%. وقبل سنوات، نشرت «نيويورك تايمز» مقالة دحضت فيها المزاعم الإسرائيلية عن نجاحات «القبّة الحديدية»، وقدّرت أن النجاح لا يتجاوز الـ40% فقط. وتَظهر الأكاذيب الإسرائيلية باختلاف المصادر عن هذه النجاحات. فجريدة «هآرتس» نَشرت في عام 2019، أنه من ضمن 690 صاروخاً أَطلقتها غزة نحو إسرائيل، لم تعترض «القبّة الحديدية» إلّا 240 فقط. والكذب عن النجاحات الإسرائيلية جزء لا يتجزّأ من البروباغاندا الإسرائيلية منذ التأسيس. نتذكّر أنه في الحرب على العراق، في عام 1991، عندما أَطلق صدام حسين صواريخ «سكود» ضدّ أهداف إسرائيلية، زعمت الأخيرة أن نظام «الباتريوت» لصدّ الصواريخ، نجح بنسبة 98% (على طريقة الفوز في الانتخابات البعثيّة في بلادنا). لكن دراسة لاحقة في جامعة «إم آي تي» أكدّت أن نجاح منظومة «الباتريوت» لم يتعدَّ الـ5% فقط.
ونقرأ في الكتاب عن أن أميركا لا تتدخّل لوقف النار بين إسرائيل والعرب إلّا عندما يكون ذلك في مصلحة إسرائيل، وبطلب مباشر منها. أميركا تترك إسرائيل كي تقتل كما تشاء من العرب وتتدخّل فقط لإنقاذها وبطلب من رئيس حكومتها. في عام 2012، اتصل نتنياهو بأوباما وطلب منه إرسال وزيرة الخارجية لوقف النار مع غزة. وافق أوباما بالطبع، وأَرسل هيلاري كلينتون على الفور، وهكذا، تمّ التوصّل إلى اتفاق تهدئة. وإسرائيل هي التي أرادت وقْف الحرب في عام 2005 مع لبنان، لأنها فشلت في تحقيق أيٍّ من أهدافها، وفشلت في التقدّم بوصةً واحدة على الأرض اللبنانية، على رغم سماح إدارة بوش لها بالاستمرار في الحرب لمدّة غير محدّدة، وهي سابقة في السياسة الأميركية نحو الصراع العربي-الإسرائيلي. ويذكر نتنياهو أن حكومة محمد مرسي الإخوانيّة وافقت على لعب دور الوسيط بين «حماس» وإسرائيل، كي تكسب ودّ الحكومة الأميركية. ويروي أن حكومة مرسي أَرسلت دبّابات وناقلات جند مصفّحة إلى سيناء من دون إذن السلطات الإسرائيلية، ما أثار غضب تل أبيب. هذه هي السيادة الكاملة التي وعد بها أنور السادات وحسني مبارك: إسرائيل انسحبت من سيناء على أن يكون لها هي – وليس لمصر – السيادة عليها وحقّ تقرير نوعية الأسلحة المسموح بها على الأرض المصرية. هدّد نتنياهو محمد مرسي: إمّا أن تسحب القوات المصرية من سيناء في غضون سبعة أيام، أو أطلب من الكونغرس الأميركي أن يوقف المساعدات السنوية لمصر. سحبت مصر قواتها من سيناء بعد أيّام من التهديد الإسرائيلي. ويزعم نتنياهو أنه كان لدى الحكومة الإسرائيلية معلومات استخبارية مفادها أن الحكومة المصرية كانت عازمة على حلّ المؤسّسات الديموقراطية في مصر، وفرْض نظام حكم إسلامي مُتسلّط. وهذه كذبة أخرى لنتنياهو، خصوصاً أنه لم يكن هناك أيّ معلومات في هذا الصدد لدى الحكومة الأميركية المتغلغلة، من خلال أجهزة استخباراتها، في كل قطاعات الاستخبارات والجيش في مصر. على العكس من ذلك، وبصرف النظر عن الرأي في الإخوان ونفاقهم خصوصاً في مسألة الصراع العربي-الإسرائيلي، فإن مرحلة الإخوان كانت الأكثر حريّة في تاريخ مصر، وكان محمد مرسي الرئيس الوحيد المُنتخب ديموقراطياً في تاريخ مصر المعاصر، مع أن شعبيّة جمال عبد الناصر في زمانه فاقت شعبيّة كل الزعماء العرب مجتمعين، في داخل مصر وخارجها.
ويوجِّه نتنياهو نقداً شديداً إلى مارتن إنديك. والأخير كان المؤسّس الواسع النفوذ لـ«مؤسّسة واشنطن» (الذراع الفكريّة للوبي الإسرائيلي في واشنطن والتي يستعين سامي الجميّل، في «لبناننا» وفي «حزب الكتائب» بمتَدَرّبين فيها كمستشارين أساسيّين له). وقبل أن يؤسّس «مؤسّسة واشنطن» ويديرها، كان إنديك، بعد هجرته من أستراليا، موظّفاً في «إيباك»، أي جهاز اللوبي الإسرائيلي الرسمي في واشنطن. وإنديك، قبل تعيينه من قِبَل إدارة بيل كلينتون سفيراً لدى إسرائيل ثم مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، كان شديد التطرّف في مناصرته لإسرائيل. تغيّرت مواقفه بعض الشيء عبر السنوات، وأصبح «الليكود» الإسرائيلي معادياً له. يقول عنه نتيناهو، إنه من المؤمنين بمقولة مركزيّة القضيّة الفلسطينية، ويصفه بأنه «كان معادياً لي بصورة استثنائية». وعندما قرّر أوباما أن يقصف سوريا ردّاً على أخبار غربية عن استعمال السلاح الكيميائي من قِبَل النظام السوري، اتصل بنتنياهو أوّلاً، قبل إعلام الكونغرس رسمياً. لكن نتنياهو عبّر عن دهشته وامتعاضه لأنه كان يريد قصفاً فوريّاً من قِبَل أميركا ضدّ أهداف سورية.
وحاجَّ نتنياهو أمام المسؤولين الأميركيين عن ضرورة ضرْب إيران، وأراد أن تقوم أميركا بقصفها بالنيابة عن إسرائيل، لكن أوباما أجابه بأنه لا يرى أن على أميركا أن تتحرّك عسكريّاً بقوّة كما كانت تفعل في السنوات السابقة، وبأنه ارتأى أن عليها أن تخفّف من وطأتها الحربيّة. صُدم نتنياهو بما قاله له أوباما. هذه هي أميركا، العصا الغليظة التي تستطيع إسرائيل أن تستعين بها متى تريد، أو متى يريد نتنياهو. بوقاحة، يقول نتنياهو ردّاً على دعوة أوباما: «أنا أريد أن أكون غوريلا بوزن 1200 رطل وليس بوزن 800 رطل». ويسخر من مفهوم «القوّة الناعمة» الذي كان يتردّد على ألسنة المسؤولين الأميركيّين في إدارة أوباما، قائلاً: «إن القوة الناعمة جيّدة، لكن القوة الصلبة أفضل». وصورة نتنياهو عن إدارة أوباما لا ترتبط بالواقع بتاتاً. هو يصوّر إدارةً تتجنّب استعمال القوة وتنزع نحو السلم واللاعنف. يقول إن أوباما كان يَنظر إلى نفسه على أنه «مواطن عالمي» وليس أميركياً، وهذا مناقض لمسيرة رئيس أفرط، مثل غيره من الرؤساء، في ضخّ مفاهيم الوطنيّة الشوفينيّة، الاستعلائيّة والقائمة على نظريّة الاستثناء الأميركي. نتنياهو عاصر عهد نيكسون عندما كان طالباً، وعاصر عهد ريغان عندما كان ديبلوماسياً، وهو ينظر إلى التجربتَيْن كمثال محتذى للعالم أجمع. لكن ما يغضّ النظر عنه، هو أن مثال نيكسون وريغان لا يختلفان البتّة عن مثال كارتر وأوباما، مع أن الخطاب والتسويغ يختلفان بين الإدارات. مفهوم القوة الأميركية ونشْر القوات الأميركية حول العالم يبقى هو نفسه، وإذا كان هناك من استثناء، فإنه يكمن في مثال دونالد ترامب لأنه وحده لم يشعل حرباً جديدة، مع أنه استمرّ في شنّ حروب بدأها أسلافه قبله (كانت أسباب ترامب متعلّقة بنظرته إلى مصلحة الاقتصاد الأميركي وضرورة الانكفاء العسكري، نسبيّاً). طبعاً، لم يمتنع ترامب أبداً عن استعمال القوة المفرطة.
حاول جون كيري، خليفة هيلاري كلينتون في وزارة الخارجية، حثّ نتنياهو على التوصّل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. صارحه نتنياهو بأنه لا يحيد عن حقّ إسرائيل (من خلال الجيش ومن خلال الـ«شين بيت») في القضاء على «خلايا إرهابية» في كل الأراضي الفلسطينية، حتى بوجود دولة فلسطينية. هذه رؤية إسرائيل للسيادة الفلسطينية على دويلة فلسطينية. وإذا كانت إسرائيل لم تسمح، ولن تسمح، لمصر بالسيادة على سيناء، فإنه من المستحيل أن تسمح لأيّ سلطة فلسطينية، ولو كانت عميلة مثل سلطة أوسلو، بالسيادة على نذر يسير من الأراضي الفلسطينية. فسّر نتنياهو الحقّ الإسرائيلي، بالقول: «إن الفلسطينيين ببساطة لا يقومون ولن يقوموا بالمهمّة». أكّد له جون كيري أن أميركا ستدرّب فرقاً فلسطينية كي تقوم بالمهامّ التي تطلبها منها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. ويقول إن كيري عرض عليه ترتيب زيارة سريّة له إلى أفغانستان كي يرى بأمّ عينه النجاحات الأميركية الكبيرة في تدريب الجيش الأفغاني. يذكّر نتنياهو بأحاديث بين الحكومة الإسرائيلية وجورج شولتز في الثمانينيات. ويقول إن شولتز، في عهد أمين الجميل، حاول إقناع الحكومة الإسرائيلية بالانسحاب من لبنان، وشجّعها بالإشارة إلى التدريب الأميركي للجيش اللبناني كي يسيطر على لبنان بعد انسحاب القوات الإسرائيلية. لكنه يقول إنه حاجَّ شولتز ضدّ الفكرة، إذ اعتبر أن «قوات راديكاليّة» ستسيطر. وتوقّع أن قوّات الجيش المُدرّبة من قِبَل أميركا ستنهار بعد انسحاب إسرائيل. وقال أيضاً إن ذلك ما حصل في عام 2000. طبعاً، يربّت نتنياهو على كتفه باستمرار، مثنياً على بُعد نظره وصحّة توقعاته في كل ما يجري حول العالم. ليس هناك ما يحصل لم يكن نتنياهو قد توقّعه من قَبل. لكن مقارنة لبنان مغلوطة هنا، لأن الجيش اللبناني، في عهد أمين الجميّل، كان جيشاً مُسيّراً من قِبَل أميركا وإسرائيل، وهو بالفعل انهار أمام غضبة الشعب اللبناني خارج المناطق الشرقية. أما جيش لبنان في عام 2000، فكان جيشاً مقاوِماً درّبه وأشرف على عقيدته العسكريّة الوطنيّة إميل لحّود، الرئيس الوحيد في تاريخ لبنان الحديث الذي كنّ عقيدة عداء ضدّ الصهيونيّة، والذي مارس سياسة غير طائفيّة في قيادة الجيش.
لكن نتنياهو على حقّ في نظرته إلى السياسة الأميركية، وأن الإدارات الأميركية تبالغ دوماً في تقدير نفوذ حلفائها (من غير الإسلاميين) في المنطقة العربية. ونتنياهو يعرض بكرم صدّ الإسلاميّين عبر الحفاظ على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وفي حديثه عن المهاجرين الأفارقة إلى فلسطين المحتلّة في عام 2013، لا يجد نتنياهو غضاضة في التعبير عن مكنوناته العنصرية، وهي مكنونات العقيدة الصهيونية التي تأسّست ونمت على أساس الفكر الاستعماري العنصري الذي يعتمد على الفصل العنصري والتمييز المقصود في المعاملة وفي رصد الميزانيّات. يصف هجرة الأفارقة بـ«سَيْل من المهاجرين غير الشرعيّين من أفريقيا». المفارقة في وصف مهاجر أميركي لمهاجرين أفارقة بـ«غير الشرعيّين»، يلخّص ببساطة تاريخ الفكر العنصري الإسرائيلي.
(يتبع)
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار