| أسعد أبو خليل
ليس سهلاً على العربي—أو على الإنسان غير الفاقد للحسّ الإنساني—قراءة مذكرات لحكّام إسرائيل. هؤلاء ينطلقون في رؤيتهم للصراع العربي – الإسرائيلي ولواقع منطقتنا من منظور لا يسهل على العربي الدخول إليه. كيف يمكن مثلاً أن تقرأ مسؤولاً إسرائيليّاً يحدّثك عن أرض ووطنٍ ليست له؟ وكيف يمكنكَ أن تقرأ عن أحداث أنتَ عشتها وتُذهل عندما تتبيّن مدى استسهال زعماء إسرائيل للكذب عنها؟ يقول بنيامين نتنياهو مبكراً في كتابه الذي صدر حديثاً بعنوان «بيبي: قصتي»، إن عائلته انتقلت إلى منزل جديد «من الطراز العربي» في فلسطين المحتلّة، وكانت الحكومة قد استملكته ليصبح منزلاً لوزير المالية ليفي إشكول. هكذا يروي نتنياهو لقراء الإنكليزيّة ببساطة شديدة، ومن دون حرج أمام الجمهور الغربي العنصري الأبيض، أن عائلته قطنت في منزل مسروق من سكّانه العرب (لن أستطيع أن أذكر صفحات الكتاب في الاستشهادات لأنني قرأتُه في نسخة إلكترونية ويختلف عدد الصفحات باختلاف النسخة واختلاف إعداداتها عند المُستعمِل). الكتاب مكتوب بأسلوب سلس، ونتنياهو زها في مقابلات أنه كتب بخط يده على دفاتر. لكن عندما تقرأ صفحة الامتنان في آخر الكتاب، تكتشف أنه استعان بفريق كبير من الكتّاب والمستشارين لصياغة نسخة الكتاب. يجهدون في إيصال رسائلهم ولا يعتمدون العفويّة في البروباغاندا. الكتاب الذي يزعم أنه بقلمه هو نتيجة عمل جماعي، مثل خطبه التي يكثر في الاستشهاد بها في الكتاب. ونتنياهو يجول على الإعلام الغربي هذه الأيّام للترويج للكتاب، وقبل أيام زاد على مقولة غولدا مئير الشهيرة بالقول إنه لم يكن هناك شعب فلسطيني على أرض فلسطين عندما وطأ أرضها الغزاة الصهاينة.
الكتاب، مثل كل روايات قادة العدوّ، مليء بالأكاذيب التي يسهل دحضها. لكن المشكلة أن كتبهم تكون موجّهة غالباً للقراء الغربيّين الجاهلين بتاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي وجرائم الصهيونيّة، كما أننا في العالم العربي لم نعد نهتم بدحض السرديّات والأقاويل الصهيونيّة. الاعلام العربي تغيّر كثيراً وباتت صحف آل سعود تجمّل صورة إسرائيل أمام القراء العرب. خسرنا كثيراً في العالم العربي بغياب «مركز الأبحاث الفلسطيني» في بيروت. نعلم اليوم أهميّة المركز عندما نتذكّر تاريخ التفجيرات الإسرائيليّة ضدّه عبر السنوات: في عام ١٩٧١، تم وضع متفجّرة أمام مبنى المركز. وفي عام ١٩٧٢، تلقّى مديره أنيس صايغ طرداً بريديّاً مفخّخاً كاد أن يودي بحياته (عندما التقيتُ صايغ وصافحته للمرّة الأولى، لم أستطع أن أتوقّف عن التفكير أن أصابعه تفتّتت بفعل التفجير الإسرائيلي). وفي عام ١٩٧٤، وضع العدوّ سيّارة مفخّخة أمامه. وفي عام ١٩٨٢، اقتحم جيش العدوّ المبنى ونهب محتوياته في جريمة أدت إلى ملاحقة عبر القانون الدولي. وفي عام ١٩٨٣، وضع العدوّ سيارة مفخّخة قتلت وجرحت أكثر من مئة من السكّان والعاملين (وكان الجيش اللبناني «يحرس» المركز ويعرّض العاملين فيه للإساءة والمهانة، بأوامر إسرائيليّة). لكن محمود عبّاس تعهّد بإنعاش «مركز الأبحاث» في عام ٢٠١٦ وكانت النتيجة مماثلة لوعوده (السابقة) بتحرير فلسطين.
يروي نتنياهو بكثير من الاعتزاز والثقة بالنفس تفجير طائرات مدنيّة في مطار بيروت في عام ١٩٦٨
يذكر نتنياهو الكثير عن شقيقه جوناثان لأن له مكانة البطل في المخيال الإسرائيلي المريض. و«يوني»—كما يسمّيه «بيبي»— هذا شارك في عمليّة فردان في قلب بيروت في عام ١٩٧٢، وحفلة التطبيع في الإمارات قد تشيّد له نصباً تذكارياً بعدما سمحت بإطلاق اسم «بيبي» على مقهى في دبي. ويذكر نتنياهو مشاركة أخيه في «معركة السموع»، وهي إشارة إلى غزو قوّة من جيش الاحتلال للأراضي الأردنيّة في عام ١٩٦٦ وقتل وجرح أكثر من مئة. كما أن العدوّ لغّم أكثر من ١٠٠ منزل ودمّر القرية عن بكرة أبيها. هذه الجريمة هي مجرّد «معركة»، كما أن عملاء إسرائيل في لبنان يتحدّثون، بصفاقة شديدة عن «معركة تل الزعتر» و«معركة مخيم ضبيّة» و«معركة النبعة»، الخ. وكذب العدوّ ينفضح من رسائل كان أخوه الضابط في جيش الاحتلال يرسلها إلى أهله قبل حرب ١٩٦٧. كان يقول فيها (الحالة النفسيّة للجيش قبل الحرب): «ليس هناك من خطب أو ذعر. إذا حدث شيء لا يمكن أن نُهزم. رجالنا ببساطة جيّدون للغاية. في المحصّلة، سننتصر بصورة حاسمة». أهميّة هذا الكلام أن الحكومة الإسرائيليّة في حينه أخفت هذه المعلومات عن الرأي العام العالمي، كما أنها اتّبعت التضليل في الإعلام الرسمي عبر تصنّع المسكنة والضعف. هذا أدّى إلى تعاطف عالمي، وإلى مناصرة غربيّة للعدوان الإسرائيلي. وتصنّع الضعف زاد من لذّة طعم الانتصار، وجعله بمثابة المعجزة (الدينيّة عند الكثير من يهود العالم). ولقد حدث الشيء نفسه في عام ١٩٤٨، عندما صورّت بروباغاندا العدوّ الانتصار على «سبعة جيوش عربيّة» على أنه معجزة إلهية، فيما كان عدد مقاتلي العدوّ من عناصر الجيش أكثر مما لدى الجيوش العربيّة السبعة التي دخلت فلسطين مجتمعة (لبنان، دخل الهوينا وخرج بسرعة بناءً على تفاهم ضمني بين جيش لبنان بقيادة فؤاد شهاب والعدوّ). الجيوش العربيّة كانت تتبع خطة معاكسة لخطط العدوّ: كانت تبالغ في إمكاناتها وتجزم بحتميّة نصرها، وهذا ما زاد من طعم مرارة الهزيمة في ١٩٦٧.
تستطيع أن تتبيّن في الكتاب كم أن العقيدة الصهيونيّة اعتنقت ممارسة الإرهاب وأدرجته في التقديس الوطني الشوفيني للعمل العسكري. ليس هناك من عمل إرهابي ضد أهداف مدنيّة يمكن أن يلقى حفيظة في نفوس الصهاينة. ليس سرّاً أن كل الأعمال الإرهابيّة—أو كلّ ما يتفق حتى الإعلام والحكومات الغربيّة على أنه إرهاب—دشّنته العصابات الصهيونيّة في بلادنا في الثلاثينيّات والأربعينيات من القرن الماضي (راجع كتاب «من هم الإرهابيّون» الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة ولجنة إعلام المرأة العربيّة الصادر في بيروت في عام ١٩٧٢. كيف أن هذا الكتاب القيّم لم يُترجَم بعد وكيف أنه لم يُعد نشره حول العالم؟). يروي نتنياهو بكثير من الاعتزاز والثقة بالنفس تفجير طائرات مدنيّة في مطار بيروت في عام ١٩٦٨. بكل بساطة يقول: «أرسلونا إلى مطار بيروت لتفجير طائرات لبنانيّة». كان قائد «العمليّة» رفائيل إيتان (معظم الكبار في السن من قادة الأحزاب اللبنانيّة الانعزاليّة الحاليّة كانوا ينادونه باسم التحبّب، «رفّول»). يقول نتنياهو بصفاقة الدعاية الصهيونية إنه حرص قبل وضع المتفجّرات على التأكد من خلوّ الطائرات من المدنيّين. كانت العمليّة تحت جنح الظلام، وكان المطار مغلقاً وكانوا على علم بذلك، لكن الجملة عن ضمان خلوّ الطائرات من المدنيّين كانت لفتة بروباغندا نعهدها في السرديّات الصحافيّة الصهيونيّة، غرباً وشرقاً. (كان العدوّ في سنوات الحرب الأهليّة، وخصوصاً في عام ١٩٨٢، يقصف مباني آهلة بالسكّان عن بكرة أبيها، لكن «صوت لبنان» وأجهزة الدعاية الإسرائيليّة كانت تزعم أن تحذيرات إسرائيليّة للسكّان كانت تسبق التفجير. أنا شاهد في أول أيّام الغزو الإسرائيلي في حزيران ١٩٨٢ على تفجير مبنى كامل في حيّ المزرعة —ملاصق لشقتنا السكنيّة—بواسطة قنابل فراغية مُلقاة من الجو، ولم يسبق القصف أيّ تحذير للسكّان. سُحقَ كل من كان في المبنى بين الطوابق، والقنبلة تتفجر مرتيْن كي يُطبِق المبنى فوق رؤوس ساكنيه). هذا الوصف العرضي لتفجير طائرات مدنيّة في مطار بيروت يذكّرنا بالحديث الدائر (من قبل أتباع حكومات الخليج وإسرائيل) حول ضرورة حصريّة السلاح. لم يسرح العدوّ ويمرح في ربوعنا كما فعل في زمن حصريّة السلاح. وتفجير الطائرات في مطار بيروت جرى عندما كان إسكندر غانم قائد منطقة بيروت في الجيش اللبناني. تبلّغ غانم تحذيراً قبل العمليّة وطُلبَ منه حماية الطائرات ولم يفعل شيئاً. كافأ سليمان فرنجيّة غانم على فعلته بتعيينه قائداً للجيش اللبناني وهو الذي تجاهل الغارة على شارع فردان والتي أودت بحياة العشرات من قادة المقاومة ومقاتلين ومدنيّين. غانم هذا كان قد أقام علاقات مع ضبّاط إسرائيليّين عندما كلّفته حكومة لبنان بالتفاوض مع إسرائيليّين حول خطوط الهدنة بعد النكبة مباشرةً.
وفي عمليّة أخرى أثناء خدمته في الجيش الإسرائيلي يقول نتنياهو: «فريقي وأنا هبطنا بالهليكوبتر في الليل في دولة عربيّة». لا تحتاج إلى التمحيص في الخريطة كثيراً كي تدرك أن العمليّة كانت في البلد المُباح لبنان، المتُمتّع آنذاك بحصريّة السلاح الذي يصرّ عليه ماكس فيبر كما فؤاد السنيورة كما اللوبي الإسرائيلي في واشنطن. وبصورة عابرة، يكرّر نتنياهو الوصف «عندما دخلنا لبنان». وهل هناك شكّ أنه لولا سلاح المقاومة الرادِع اليوم، لكان جيش العدوّ «يدخل» لبنان أسبوعيّاً وينصّب رؤساء حكومات وجمهوريّة ووزراء؟ ويتحدّث عن عمليّة أخرى في الأراضي السوريّة. لم يكن العدوّ يحترم الحدود التي لم يستحقّها يوماً، لكن مجرّد عمليّة خطف لجنود العدوّ في ٢٠٠٦ للمبادلة مع معتقلين عرب أثارت غضب حكومات الغرب وأعوان إسرائيل في لبنان. ووصف نتنياهو لبطولاته العسكريّة يذكّر بوصف المقاتل الكتائبي، مارون مشعلاني ببطولاته الخارقة في كتابه «صليب الحرب: من غياهب الظلمات إلى النور السماوي». ليس من عمليّة كُلِّف بها نتنياهو إلا وقام بها خير قيام وتفوّق وجلّ، مع أن قائده في تلك الفترة، إيهود باراك، قال إنه لم يكن كما يصف نفسه بالنسبة إلى المهارة والشجاعة والقدرات.
ونتنياهو خبير بالعلاقات الأميركيّة-الإسرائيليّة ويستطيع أن يحدّد بدقّة طبيعة وأسباب الثقة الإسرائيليّة بالتغطية السياسيّة الأميركيّة لعدوان إسرائيل. يقول مثلاً: «على إسرائيل أن تضع أمنها أولاً، وعند الضرورة عليها أن تضرب مسبقاً. أما التحالف مع أميركا فهو يعتني بنفسه. معظم الأميركيّين، بمن فيهم الرؤساء، يفهمون أنه عندما “تحزّ المحزوزيّة” فإن على إسرائيل أن تقوم بما تراه ضرورياً للدفاع عن نفسها. وفوق ذلك، الجميع يحب الرابحين، والضرب الاستباقي يعطيك أفضليّة». ما يقوله نتنياهو صحيح، وهذا ما شاب السلوك العسكري العربي منذ النكبة. لقد تجنّب العرب الضرب الاستباقي لأنهم—بمن فيهم جمال عبد الناصر نفسه—وثقوا بالوعود الأميركيّة الكاذبة وظنّوا أن أميركا ستعاقب الضارب أولاً ولو كانت إسرائيل. إن المقاومة اللبنانيّة الحاليّة نالت حظوة عسكرية في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي لأنها فهمت ضرورة الضرب الاستباقي.
تلاحظ الكثير عن أسلوب عمل جيش العدوّ من تجربة نتنياهو العسكريّة وتجربة أخيه
ويجزم نتنياهو بأقواله كأنه مؤرّخ. يقطع أن الشعب الفلسطيني لم يبلور وعياً قومياً قبل النصف الأوّل من القرن العشرين. لكن رشيد خالدي بحث الأمر ووثّقه في كتابه «الهويّة الفلسطينيّة: بناء وعي قومي حديث». وحتى المؤرّخ الإسرائيلي المُنحاز، يهوشوفاه بورات، في كتابيْه عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة يرصد جذورها في زمنٍ يسبق القرن العشرين. ومفهوم «جند فلسطين» الكياني عند العرب سبق مرحلة الحركة الصهيونيّة لأن الصهاينة يرفضون رؤية القوميّة الفلسطينيّة إلا كردّة فعل ضد الصهيونيّة. لكن الموضوع لا يهمّ: من حق الشعب الفلسطيني رفض الغزو الصهيوني بصرف النظر عن حالة الوعي القومي أو الهويّة. كما أن الوعي القومي العربي عند الشعب الفلسطيني لم يتضارب مع الوعي الوطني الفلسطيني: ليست كل الأقطار العربيّة مثل لبنان حيث زُرعت فيه هويّة فينيقيّة شوفينيّة في تضادّ مع الوعي القومي العربي لسكّانه.
ويذكر نتنياهو الاتهامات التي لا تزال تطاله أنه تدخّل ويتدخّل في الشؤون الداخليّة الأميركيّة وأنه ساهم في إنجاح الجمهوريّين في الانتخابات. يذكّر نتنياهو بأن إسحق رابين، عندما كان سفيراً لبلاده، اتهم من قبل المؤرّخ الديموقراطي، أرثر شلسنجر، بالتدخّل لمصلحة ريتشارد نيكسون. كتب شلسنجر: «لم يكن هناك من مبعوث أجنبي (قبل رابين) تدخّل بهذه الصفاقة في السياسات الداخليّة الأميركيّة منذ الحادثة المؤسفة لساكفيل – وست في ١٨٨٨» (كان ساكفيل وست دبلوماسياً بريطانيّاً وكتب رسالة في حمأة انتخابات رئاسيّة اعتُبرت تدخلاً في الشؤون الأميركيّة).