| محمد نور الدين
تموز هو شهر المعاهدات الكبيرة، كما المناسبات الاستثنائية الخاصة بتركيا. ففي 24 تموز 1923، كانت «معاهدة لوزان» بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وتركيا. وفي 30 تموز 1936، وُقّعت «اتفاقية مونترو» الخاصة بالمضائق التركية. وفي 20 تموز 1974، بدأت تركيا غزو قبرص في ما سمّته «عملية السلام». وفي 11 تموز الحالي، كانت «التكويعة» التركية المتجدّدة نحو الغرب الأطلسي من خلال «قمّة فيلنيوس» وما تخلّلها من قرارات، ومن بعدها مباشرة جولة تثبيت «المصالحات» مع السعودية والإمارات. وفي 27 تموز، ستُعقد «قمّة المصالحة» بين الرئيسَين التركي والمصري في أنقرة، التي سيزورها قبل ذلك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وبعده رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو. مع هذا، يبقى ما يشغل بال تركيا شيء آخر تماماً، وهو قلقها من انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب مع أوكرانيا، والتي كانت وُقّعت قبل عام في إسطنبول برعاية الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، شخصياً، وما يثيره الانسحاب من تساؤلات حول تداعياته وإمكانية التراجع عنه، وخصوصاً أن الشهر المقبل سيكون موعد اللقاء الحساس بين إردوغان ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين.
وأضاف قرار روسيا التحلّل من ضمان سلامة السفن العابرة من الموانئ الأوكرانية وإليها، بنداً خلافياً جديداً بين أنقرة وموسكو، بعد سلسلة المواقف الاستفزازية التركية الحادّة ضدّ روسيا، وخصوصاً لناحية قبول عضوية السويد في «الناتو» وتأييد عضوية أوكرانيا فيه. ويحمل هذا البند حساسية خاصة بالنسبة إلى أنقرة، بالنظر إلى أن إردوغان وضع رهانات كبيرة على اتفاقية الحبوب، من أجل استكمال تشكيل صورة تركيا «المتوازنة» والراغبة في الاضطلاع بدور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا ومن خلفها الغرب، فيما كان جزء من التجاوب الروسي مع متطلّبات هذه الاتفاقية ناجماً عن مراعاة بوتين للعلاقات الطيّبة مع إردوغان. ووفقاً للأرقام، فقد بلغ إجمالي ما حملته السفن من ميناء أوديسا إلى العالم، منذ بدء العمل بالاتفاقية وحتى الانسحاب الروسي منها، حوالي 33 مليون طن من الحبوب، على رأسها القمح والذرة وفول الصويا. وفي حال لم توافق موسكو على تجديد العمل بالصفقة، فستضطرّ كييف لتصدير محاصيلها من الحبوب إلى أوروبا والعالم عبر الممرّات المائية (الأنهار التي تربطها بدول أوروبية) وخطوط السكك الحديدية، وفي ذلك بالطبع كلفة أعلى ووقت أطول.
وعلى رغم أن روسيا ربطت الانسحاب بعدم تلبية مطالبها المتمثّلة في التوزيع العادل للحبوب على كلّ العالم وليس على الدول الغنية فقط، وإدراج حساب وزارة الزراعة الروسية في نظام «سويفت» المالي حتى تتمكّن موسكو من الاستفادة مالياً منه، إلّا أن جزءاً من القرار جاء مدفوعاً، على ما يبدو، بالردّ على مواقف «الصديق» التركي، الذي يسود شعور لدى روسيا بأنه بدأ يفارق موقعه «المتوازن» بين روسيا والغرب. وفي مقابل ذلك، أعلنت تركيا، التي أكدت أن روسيا سحبت بالفعل ممثّليها من مركز التنسيق الرباعي الخاص بالاتفاقية والموجود في إسطنبول، أنها مستعدّة للقيام بأيّ دور لتسهيل إحياء الاتفاقية «حتى لا يعيش العالم دموعاً ومآسي جديدة». وقال رئيس دائرة العلاقات الإعلامية في وزارة الدفاع، العقيد البحري زكي آق توركا، إن «استئناف العمل باتفاقية الحبوب مهمّ للعالم أجمع، حيث تصل الحبوب من خلال هذه الاتفاقية إلى 45 دولة في القارات الثلاث». ومع أن إردوغان أعرب عن اعتقاده بأن «بوتين يريد الاستمرار في عمل هذا الجسر الإنساني»، فقد أبلغت روسيا «المنظمة البحرية العالمية» بوقف العمل بضمان سلامة السفن الآتية أو المغادِرة إلى أو من ميناء أوديسا الأوكراني، كما أبلغت الجميع بأنها ستعتبر هذه السفن أهدافاً عسكرية.
يحذّر خبراء أتراك من أن الأزمة الاقتصادية تبدّد الثروة الجيوبوليتيكيّة لتركيا
على أن العديد من التحليلات في تركيا تذهب إلى ما هو أخطر من ذلك. إذ أطلق الأميرال التركي المتقاعد والمعروف، جيم غوردينيز، تحذيراً من محاولة الغرب استدراج تركيا إلى حرب يراد لها أن تقع، بسبب الصعوبات التي تواجهها اتفاقية الحبوب. وقال غوردينيز: «تركيا لم تعترف بضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وهي تعترف بسواحل القرم على أنها تابعة لأوكرانيا، لكن روسيا تقول إن القرم لي وأعلنتها ساحة حرب/ أزمة. ولذلك، فإن روسيا لديها القدرة على تطبيق الحصار الذي تهدّد به». وأضاف أن «تهديد وزير الخارجية الأوكراني بتشغيل الاتفاقية عند الضرورة، أمر يتّصل بوضع المضائق في البوسفور والدردنيل. إن هذا يعني أن تركيا ستضمن أمن السفن لدى مرورها في المضائق، بينما أبلغت روسيا المعنيين أنها لا تضمن أمن السفن المتّجهة إلى أوكرانيا أو الخارجة منها. وهذا يعني بالنسبة إلى تركيا انتحاراً جيوبوليتيكاً». ومن هنا، اعتبر أن «على أنقرة أن تقاوم هذه الضغوط»، منبّهاً إلى أن «السيناريو الأسوأ هو إبعاد تركيا عن سياسة الحياد الإيجابي في البحر الأسود».
وأشار غوردينيز إلى أنه «حتى الآن، ليس من سفينة عسكرية واحدة يمكن أن تَدخل إلى البحر الأسود، لكن البعض يعمل على ذلك. ولذا، فإن انزياح تركيا في قمة فيلنيوس 180 درجة إلى جانب الأطلسي أمر مقلق من زاوية الجيوبوليتيك التركي». ورأى أن «شهر تموز هو شهر الانتصارات لتركيا: لوزان، مونترو، قبرص، لكن هذا العام الذي نحتفل فيه بالذكرى المئوية للوزان هو عام سيّئ لتركيا، حيث الأزمة الاقتصادية تبدّد الثروة الجيوبوليتيكيّة لتركيا»، محذّراً من أن «الأزمة المالية يمكن أن تعوّضها تركيا بعد سنتين أو ثلاث، لكن التنازلات الجيوبوليتيكيّة وتلبية مطالب الإمبريالية الغربية أمر يحتاج إلى عشرات السنين لتعويضه». وأعرب عن اعتقاده بأن «أوكرانيا يمكن أن تعقد اتفاقيات مع دول البحر الأسود. لكن أفضل ما يمكن أن تفعله الآن هو اتفاقيات لتصدير حبوبها عبر رومانيا واليونان إلى أوروبا والبحر الأبيض المتوسط»، متهماً الغرب بـ«ازدواجية المعايير؛ فهو يحذّر من أزمة جوع عالمية، ولكنه هو الذي يمنع تصدير الحبوب إلى أفريقيا ويستحوذ على معظم الحبوب المصدّرة». ووفقاً لما هو متداول، فإن خريطة توزيع صادرات الحبوب إلى العالم تعكس خللاً كبيراً، وهي على النحو الآتي: 40 في المئة إلى أوروبا، 30 في المئة إلى آسيا، 13 في المئة إلى تركيا، 12 في المئة إلى أفريقيا، و5 في المئة إلى الشرق الأوسط.