المنذر الدمني
ليس عيد الميلاد مجرّد مناسبة احتفالية عائلية، بل تحوّل على منصّات البث إلى حدث برمجي وثقافي كامل تُعاد صياغته بعناية. بوصفها منصّةً تعمل بمنطق مختلف عن التلفزيون التقليدي، لا تتعامل نتفليكس مع أفلام الأعياد كمواد ترفيهية عابرة، بل كطقس جماعي سنوي، يُستثمر فيه الحنين، والعاطفة، والذاكرة الجماعية، ويُعاد إنتاجه بصيغ جديدة تخاطب جمهوراً متنوّعاً ومتعباً من إيقاع العالم المتسارع. هنا، لا يصبح الفيلم مجرّد عمل يُشاهَد، بل جزءاً من تجربة زمنية محدّدة، مرتبطة بعطلة نهاية العام وبالشتاء، ولمّة العائلة، والحاجة إلى دفء رمزي في عالم يزداد برودة.
هذا الرهان السنوي على أفلام الكريسماس ليس عفوياً؛ فهو يقوم على وعي دقيق بسلوك المشاهدة، حيث ترتفع نسب الاستهلاك الجماعي، ويبحث الجمهور عن محتوى يمنحه شعوراً بالأمان والاستمرارية. لذلك، تستثمر نتفليكس في إنتاج سلاسل وأفلام أصلية تُعرض حصرياً في هذا التوقيت.
wicked for good
wicked for good
من هنا، يطرح السؤال نفسه: هل تحوّلت أفلام الكريسماس اليوم إلى نوع سينمائي مستقل داخل المنصّات؟ نوع له قواعده السردية، وشخصياته النمطية، وإيقاعه البصري والموسيقي الخاص، ويُنتَج لا بوصفه استثناءً موسمياً، بل كجزء ثابت من خريطة البرمجة السنوية.
أفلام لم تعد تُقاس بقيمتها الجمالية وحدها، بل بقدرتها على صناعة شعور جماعي مؤقّت، يُعيد للمشاهد وهم الفرح، ولو لمدّة فيلم واحد.
تعتمد أفلام الكريسماس، ولا سيما إنتاجات منصّات البث، على ثيمات تتكرّر سنوياً من دون أن تفقد جاذبيتها، وفي مقدّمتها العائلة بوصفها النواة السردية الأساسية.
عائلات متفكّكة تعيد لَمَّ شملها، أو تُختبَر تحت وطأة الغياب والخلافات القديمة، في لحظة زمنية يستدعي فيها العيد الذاكرة الجماعية والحنين معاً. هنا تتحوّل العائلة إلى استعارة عن الأمان المفقود في عالم مضطرب. يقدّم The Christmas Chronicles (نتفليكس) هذا النموذج بوضوح، حيث تُستخدم الفانتازيا كغطاء لإعادة ترميم عائلة متصدّعة، فيما يرسّخ Home Alone (1990) ـــ بوصفه مرجعاً كلاسيكياً ــــ فكرة اختبار معنى العائلة عبر غيابها المؤقّت.
إلى جانب العائلة، تحضر ثيمة الفقد كقلب عاطفي خفيّ لهذه الأفلام؛ يتمثّل في غياب شريك أو والد، أو في فقدان المعنى ذاته مثل فيلم الأنيمايشن Scrooge: A Christmas Carol المستند إلى رائعة تشارلز ديكنز الأدبية (متوافر على نتفليكس). أفلام الأعياد لا تنكر الألم، لكنها ترفض تقديمه كمأساة نهائية، بل تعيد تأطيره ضمن مسار تصالحي. في فيلم الأنيميشن «كلاوس» (نتفليكس) يصبح الفقد حالة وجودية تُشفى بالفعل الإنساني والمشاركة، بينما يستخدم Just Another Christmas (نتفليكس) حلقة الزمن المتكرّرة كاستعارة عن العجز والحزن المؤجَّل، قبل إعادة اكتشاف العيد بوصفه لحظة تصالح مع الذات.
تشكّل العائلة النواة السردية الأساسية
وتعمل المصالحة كثيمة جامعة تربط العائلة بالفقد، وتُقدَّم بوصفها فعل اعتراف متأخراً أكثر منها نتيجة صراع درامي معقّد. الكريسماس هنا يمنح الشخصيات، ومعها الجمهور، إذناً أخلاقياً للبدء من جديد. يظهر ذلك بوضوح في A Christmas Prince (نتفلكس)، حيث تُختزل المصالحة في تسوية سريعة بين الحب والواجب، وفي The Holiday (نتفليكس) الذي يبني أثره العاطفي على مصالحات صغيرة مع الماضي، لا على حلول كبرى.
في هذا السياق، يبرز الحب المتأخّر كثيمة متكرّرة وناجحة، خصوصاً في أفلام نتفليكس الرومانسية. حب يأتي بعد خيبات طويلة، ويُقدَّم لا كشغف عاصف، بل كخلاص هادئ وإمكانية ثانية للحياة. يعكس Love Hard (نتفليكس) هذا التحوّل من الرومانسية المثالية إلى علاقات مرتبكة في عصر التطبيقات، بينما يربط Last Christmas (نتفليكس) الحب بالشفاء وإعادة الاتصال بالحياة نفسها.
The Christmas Chronicles
The Christmas Chronicles
يبقى السؤال: هل يبحث الجمهور في الأعياد عن الأمل أم عن الهروب؟ تبدو أفلام الكريسماس ناجحة لأنها توازن بين الاثنين؛ تمنح المشاهد مهرباً عاطفياً عبر نهايات متوقّعة ودافئة، لكنها تضخّ في الوقت ذاته أملاً بسيطاً ومحدوداً، يقوم على فكرة أن العلاقات قابلة للإصلاح، وأن الخسارة لا تعني النهاية. بذلك، لا تقدّم هذه الأفلام حلولاً للعالم، بل استراحة مؤقّتة منه، وهو سرّ استمرار حضورها وتأثيرها.
في المقابل، يلفت الغياب شبه التام لبرمجة خاصة بالأعياد في صالات السينما في لبنان، حيث لا يبدو أن الموسم يُستثمر بوصفه لحظة ثقافية أو جماهيرية استثنائية. وحده فيلم wicked for good، المطروح في الصالات اللبنانية، يمكن اعتباره عملاً «كريسماسياً» بالمعنى الرمزي، لا الزمني. فيلم يقوم على عوالم سحرية، واستعراض بصري، وحكاية هروب وخلاص، وهي عناصر جرى تكريسها تاريخياً كجزء من تقاليد أفلام الأعياد. لكن حضور فيلم واحد، مهما بلغت شعبيته، لا يصنع موسماً، ولا يعوّض غياب رؤية برمجية متكاملة.
بهذا المعنى، لا يعود تفوّق المنصّات في موسم الكريسماس مرتبطاً فقط بالإنتاج أو الميزانيات، بل بقدرتها على فهم العيد كحالة شعورية وسلوكية، لا كمجرد موعد عرض. بينما تكتفي الصالات بعرض عناوين معزولة، تنجح نتفليكس في تحويل الأعياد إلى طقس مشاهدة، وإلى ذاكرة سنوية تتراكم وتُعاد كل عام. تحوّل لا يعكس أزمة الصالات فقط، بل يطرح سؤالاً أوسع حول مستقبل المواسم السينمائية، ومن يملك اليوم حقّ تعريفها وصناعتها.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
