د. سلمان ريا
في ضوء ما يشهده الاقتصاد السوري من تحديات بنيوية ومركّبة، تبرز إشكالية حبس السيولة النقدية لدى المصارف كواحدة من أكثر الظواهر إلحاحاً وخطورة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، بالنظر إلى آثارها المباشرة على الدورة الإنتاجية، ومستوى الطلب الكلي، وسلامة النشاط التجاري، فضلاً عن انعكاساتها على الثقة العامة بالنظام المصرفي.
ففي الوقت الذي يواجه فيه المودعون صعوبات متزايدة في سحب أرصدتهم النقدية، نتيجة القيود المفروضة على السحوبات اليومية أو الامتناع شبه الكلي عن تلبية الطلبات النقدية، تتعمق حالة الركود في السوق المحلية، وتتآكل القدرة الشرائية للأفراد، وتُصاب الحركة التجارية والسياحية والصناعية بحالة من التباطؤ القسري. إن عجز المصارف عن تأمين السيولة بالوتيرة المطلوبة مردّه إلى تشدد مصرف سوريا المركزي في تزويدها بالكاش اللازم، مما يضع المصارف في مواجهة مباشرة مع المواطنين، ويُحدث خللاً في العلاقة التبادلية بين المودع والمؤسسة المصرفية، وهي علاقة تقوم في جوهرها على الثقة والضمان والمرونة.
وإذا كانت الغاية من هذه الإجراءات هي تقليص حجم الكتلة النقدية المتداولة وتقييد الطلب على العملات الأجنبية بهدف تحقيق استقرار سعر الصرف، فإن هذه الغاية – مهما بلغت من الأهمية – ينبغي ألا تكون على حساب شلّ الأنشطة الاقتصادية الأساسية، أو تفريغ الدورة النقدية من مقوماتها الحيوية، أو إضعاف الاستهلاك النهائي، الذي يعدّ من أبرز محركات النمو في الاقتصادات الريعية والمنتجة على حد سواء. فالسيولة المصرفية لا تمثّل مجرد أداة للتداول، بل تُعدّ محركاً أساسياً لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ولتنشيط الاقتصاد المحلي، ولتحقيق أهداف التنمية المستدامة بما في ذلك دعم التشغيل، وتحسين الخدمات العامة، ورفع كفاءة البنية التحتية.
إن الحفاظ على التوازن النقدي لا يتحقق عبر الانكماش القسري للسيولة، وإنما من خلال تعزيز الثقة، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وتحفيز الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي، بما ينعكس إيجاباً على حجم الناتج المحلي الإجمالي، ويقلل تدريجياً من اللجوء إلى المضاربة بالقطع أو طلبه لتلبية الاحتياجات الاستيرادية غير المنتجة. وتقوية الاقتصاد الحقيقي، عبر دعم الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي، وتحريك عجلة التصنيع المحلي، وتوفير بدائل المستوردات، هو السبيل الأمثل إلى تخفيف الضغط على العملات الأجنبية، وتحقيق استقرار مستدام في سعر الصرف.
لقد أثبتت التجارب النقدية في الدول النامية أن معالجة الاختلالات في سوق القطع تبدأ أولاً من تحسين أداء القطاعات الإنتاجية، وتوسيع العرض السلعي، وتوليد فرص عمل ذات دخل حقيقي، بما يؤدي إلى تحفيز الطلب الفعال، وتحقيق التوازن بين العرض والطلب، وضبط المستوى العام للأسعار، وانخفاض معدل التضخم. وكل ذلك ينعكس إيجاباً على قيمة العملة الوطنية، ويعزز من موقعها في السوق الداخلية والخارجية، دون الحاجة إلى إجراءات انكماشية قسرية تؤدي إلى مزيد من التباطؤ وفقدان الثقة.
وإذا كانت التنمية المستدامة تستند في جوهرها إلى استثمار الموارد البشرية والطبيعية والمالية بشكل متوازن يحقق العدالة بين الأجيال، فإن القطاع المصرفي يُعدّ ركيزة محورية في تمويل مشاريع الطاقة المتجددة، والتنمية الريفية، والبيئة الحضرية، والتعليم، والصحة، وريادة الأعمال، وغيرها من محاور الاستدامة. ويُضاف إلى ذلك أن التمويل المصرفي، حين يتجه إلى دعم الاقتصاد المعرفي، يسهم في بناء منظومة إنتاجية تقوم على الابتكار والتقنيات الحديثة والبحث العلمي، ما يؤدي إلى تعزيز القدرات التنافسية للمجتمع السوري، وإعادة تشكيل بنية العمل وفقاً لمتطلبات العصر.
ولا يمكن فصل دور السيولة المصرفية عن ضرورة بناء قاعدة متينة للموارد البشرية القادرة على قيادة مرحلة التحول الاقتصادي. فالمورد البشري المؤهّل علمياً وتقنياً يشكل الرأسمال الحقيقي في الاقتصاد المعرفي، حيث تغدو المعرفة هي الأصل الإنتاجي الأول، والابتكار هو المعيار الأساسي للقيمة. وهنا تبرز أهمية تمويل التعليم العالي، وتكنولوجيا المعلومات، والمراكز البحثية، بما يكفل التحول من اقتصاد قائم على الإنفاق الحكومي إلى اقتصاد مدفوع بالكفاءة والإنتاجية.
إن مسار الانتقال إلى اقتصاد غير نقدي لا يجوز أن يكون منفصلاً عن واقع السوق السورية، بل ينبغي أن يتم تدريجياً ووفق آليات تشريعية ومصرفية متكاملة، تقوم على الحوكمة، والشفافية، والتحفيز الإيجابي، بما يتيح للمواطن والمستثمر التكيف مع هذا الانتقال دون أن يشعر بأنه يخسر حقه في السيولة، أو يُجبر على مسارات لا تنسجم مع طبيعته الاقتصادية اليومية.
ويُضاف إلى ذلك أن تدهور الثقة بين المواطنين والمؤسسات المصرفية، وتكرار حوادث التوتر أمام فروع المصارف، ينذر بعواقب اجتماعية واقتصادية وأمنية ينبغي التنبه لها مبكراً. ومن هذا المنطلق، فإن تحرك الجهات المعنية – وفي مقدمتها مصرف سوريا المركزي، ووزارتا المالية والاقتصاد – لمعالجة هذا الوضع أو التخفيف من آثاره السلبية، لم يعد مطلباً فئوياً، بل ضرورة وطنية ملحة تفرضها طبيعة المرحلة، ومسؤولية الحفاظ على تماسك الاقتصاد السوري، وقدرته على الصمود والاستمرار.
يبقى رهاننا على تعافي الاقتصاد مرهوناً بإعادة الثقة، وتحقيق مرونة نقدية حقيقية، وتوفير السيولة بوصفها شريان الحياة الاقتصادية. فالنقد لا قيمة له إذا لم يتحرك، والاقتصاد لا حياة فيه إذا جُمّدت مكوناته الأساسية. وكل أملنا أن تشهد المرحلة المقبلة خطوات إصلاحية مدروسة، تعيد التوازن إلى الدورة الاقتصادية، وتعزز كفاءة النظام المصرفي، وتعيد للمواطن السوري ثقته بوطنه ومؤسساته، وتؤسس لانطلاقة جديدة في البناء والتنمية.
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)