- عبد الرحمن جاسم
- الجمعة 28 آب 2020
تقنياً، يحاول المخرج محمد عبد العزيز القادم من عالم الكليبات، تقديم عملٍ مختلف، وهذا أمرٌ نجح فيه إلى حدٍّ كبير، إذ يتنقل بسلاسة بين الحاضر والماضي. ساعده في ذلك اختيار ممثلين قديرين استطاعوا تأدية ما أراده منهم بالضبط. يستخدم تقنية «التسليع» (في مستواه الثالث) الكتابية، حيث يُدخل شخصية «تاريخية» في سياق المسلسل ـــ وإن لم يحدث ذلك فعلياً ــــ فيدخل الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا في أحداث المسلسل. هكذا، نراه يدخّن دخان «حمرا» (السوري التقليدي) أو يأكل الفول في أحياء دمشق ويتبادل الآراء والأحاديث مع أبطال العمل (وإن بدت الشخصية مسطّحة في لحظةٍ ما)… أو نجد ميرامار المغنية منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي تغنّي «مربى الدلال» التي كتبها وألّفها زياد الرحباني وغنّاها الراحل جوزيف صقر في ألبوم «بما إنو» (في تسعينيات القرن الماضي)؛ وهذه حرفة قلّما نراها لدى مخرج محلي. كذلك، يُحسب للمخرج اختياره أماكن ذات بعد «نوستالجي» للتصوير فيها، كمبنى سينما قديم، وكباريهات، وبيوت دمشقية قديمة، فضلاً عن إصراره ـــ عبر حوارات المسلسل ــــ على الحديث عن مدينة دمشق وإعطائها بعداً خيالياً. أمر آخر يُحسب له، هو أن التبديل بين الشخصيات في أعمارها (كشخصيتَي مراد وبرهان) بدا سهلاً، كما لو أننا نرى الشخصيتين نفسيهما لا أربعة ممثلين.
تشويه صورة عبد الناصر؟
يستخدم المخرج محمد عبد العزيز في المسلسل العديد من الفيديوهات الوثائقية، وخصوصاً لصور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لكنه يدمجها داخل العمل مع مشاهد «سوداوية» أو «قاسية» (كالبطلة المغطاة بالدماء التي تسير في الشارع)، إضافةً إلى مقاربة الصورة مع مزيج من صور تلك المرحلة السياسية وضابط أمن قمعي كعبد الحميد السراج. فهل كان المقصود هو تشويه صورة عبد الناصر التي بتنا نراها كثيراً في العديد من المسلسلات والأعمال الفنية الدرامية العربية؟
أدائياً، يمكن الحديث مطولاً عن سلاف فواخرجي. تبذل الممثلة القديرة جهداً خارقاً في هذا المسلسل، وهو يقسّم عملياً على عدّة طبقات. الطبقة الأولى هي «نضجها» الخاص بداية، إذ يمكن القول بأنَّ فواخرجي باتت أشبه بسعاد حسني في فيلم «بئر الحرمان» (1969 ــ كتابة يوسف فرنسيس، وإخراج كمال الشيخ) أو ناديا لطفي في «أبي فوق الشجرة» (1969 ــ كتابة إحسان عبد القدوس وإخراج حسين كمال)؛ وهو نقلة نوعية لواحدة من نجمات جيلها. لقد أدركت الخط الذي يجب أن «تنضج» عليه، فهي لم تعد «كندا» في مسلسل «ذكريات الزمن القادم» (2003 ـــ كتابة ريم حنا وإخراج هيثم حقّي)؛ إنها اليوم في عقدها الرابع من عمرها الحقيقي، لكن لربما شخصية ميرامار- التي تؤديها- أصغر سناً. مع ذلك، تنجح في إبقاء إشعاع الاهتمام والتركيز منصباً عليها: لقدرتها على تجسيد ذلك العامل المذهل الذي يدفع المشاهدين لمتابعة هذه الممثلة دون غيرها. سلاف لم تغيّر شكل جسدها، وقد يعتقد البعض أن امتلاءه بعض الشيء-في الشخصية- كان مشكلة، لكن للعلم فقط، تلك كانت الأحجام السائدة في تلك المرحلة الزمنية، والجسد الضامر لم يكن البتة سمة «محبّبة»؛ بالتالي هي قاربت الشخصية أيضاً من هذه الناحية. يُحسب لسلاف أيضاً أنّها سمحت لجميع زملائها بالسطوع إلى جوارها، إذ أنّها كانت تمرر طوال الوقت «الكرة» إلى زميلها مهيار خضّور في المشاهد التي جمعتهما معاً. لم تتعارك معه البتة، ونتحدث عن العراك هنا على المستوى الحضور والأداء. لم تحاول سرقة الكاميرا/ الضوء/ الاهتمام البتة، بل كانت تفسح له المجال كي يشعّ. الأمر نفسه ينسحب على معظم من ظهرت معهم. يمكن القول بأن فواخرجي، تقدّمت بعد أدائها هنا شوطاً كبيراً على معظم نجمات جيلها.
بالنسبة إلى مهيار خضّور، يمكن اعتبار شخصية مراد عكّاش من أهم أدواره، بعد أدائه المذهل لشخصية زكوان في مسلسل «عناية مشددة» (2015 ــ كتابة علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج أحمد الأحمد). حضّر خضّور الدور جيداً، أفاد من جسده الرياضي (كونه قادماً من عالم الرقص) وملامح وجهه الجادة والقاسية، أضاف إليها شواربَ ممتدة وجرحاً أسفل العين وأداءً جميلاً، وخصوصاً لناحية الكيمياء الأدائية بينه وبين بطلة العمل. ولو استمر على هذا المنوال، واختار أعماله بشكل ذكي، شأنه في ذلك شأن محمود نصر، فسيكون واحداً من أهم نجوم السنوات القادمة في الدراما السورية الجديدة.
قصّة تمزج بين الحاضر والماضي، تبدأ منذ عصر الوحدة السورية المصرية وصولاً إلى ما قبل الأزمة الراهنة
عباس النوري (في دور مراد عكّاش الكبير السن) لا يمكن الحديث كثيراً عن أدائه، إذ أنه يمتلك حرفة «المؤدي» بشكل سلس، هو يشبه ممثلي هوليوود الكبار، يؤدي كما لو أنّه «يرقص»، يجعل التمثيل سهلاً للغاية. أمل عرفة بدورها تعيد «تقديم» نفسها من جديد، فتقدّم شخصية «سماهر» أو سوسو الراقصة «الشعبية»، ويبدو أنها تدربت كثيراً على الدور: تتغنّج في الحديث في أثناء غالبية الوقت، تتصرف/ تتحدّث كراقصات شارع محمد علي المصري الشهير، وفي الوقت نفسه مستعدة ألا تضع مكياجاً أبداً على وجهها لتظهر الوجه الآخر من حياة «عاملات الليل»، فضلاً عن جملتها المحببة المعتادة «لاحقين نموت». يقدّم جوان الخضر، الذي صبغ شعره بالأشقر، وغيّر قليلاً من معتاده الأدائي شريراً جميلاً في مسلسلٍ كهذا: ضابط أمن يشبه ضباط الأمن الحاليين وإن بلكنة ولغة ضباط الأمن في ذلك العصر، سواء لناحية علاقاته العائلية، أو الشخصية. نظلي الروّاس بدورها، وكنا أشرنا في مقالٍ سابق في «الأخبار»، إلى أنّها واحدة من النجمات الـauxiliary، أي التي يحتاج إليها أي عمل لضمان نجاحه، هي حتى اللحظة لم تأخذ بطولتها المطلقة بعد، لكنها تستحقها بشدة. هي لا تتكئ على جمالها البتة، تؤدي بسهولة. ورغم أنّ وقتها على الشاشة قصير مقارنةً بغيرها، إلا أنّها تملأ كل لحظةٍ منها و«تأكل الجو». يشار إلى أن العمل يضم أيضاً مؤدين قديرين أمثال فايز قزق وتيسير إدريس وأنطوانيت نجيب أعطوا لأدوارهم في المسلسل الكثير من الجمالية.
باختصار، يمكن اعتبار «شارع شيكاغو» كعودة الشيخ إلى صباه: عودة الدراما السورية إلى عرينها المعتاد، الذي فقدته خلال السنوات الفائتة لأسبابٍ خارجة عن إرادتها.
* «شارع شيكاغو»: 21:00 من الأحد إلى الخميس على قناة «Osn يا هلا»، و22:00 على قناة «osn يا هلا بلس» (بتوقيت بيروت)
(سيرياهوم نيوز -الاخبار)