محمد الجزائري
عبد الوهاب البياتي، والكاتب والمؤرخ المصري غالي شكري، والروائي والقاص والناقد العراقي عائد خصباك
في الثالث من آب (أغسطس) الماضي، مرّت الذكرى الخامسة والعشرون على رحيل أحد روّاد حركة التجديد والحداثة في الشعر العربي المعاصر. كان مناضلاً وشاعراً كبيراً معارضاً للنظام، منذ تخرّجه في «دار المعلمين» في العراق عام 1950 مروراً باعتقاله مراراً بسبب مواقفه الوطنية، وصولاً إلى مغادرته البلاد منفياً بين المدن. عذبته الأنظمة والمنظومات في حياته، وشرَّدته في المنافي، وطردته عشيرة التنظيم، إلى العزلة الفكرية والموت البطيء
أجزم بأن الحديث، عن شعرية عبد الوهاب البياتي وحياته (1926-1999) سيكون فضلة لا ترتقي إلى مستوى قامته، ولا تليق به وبما قدّم، فقد كُتب عنه الكثير، وترجمت أعماله إلى غير لغة. لكن إذا كان ثمة تكريم لتاريخه الإبداعي والإنساني، فإنما يتجلى حين يرى الكادحون إلى مجلّدات شعره مطبوعةً وميسَّرة لهم ولأبنائهم من بعد، كتراث تقدّمي يعتز به الشعب العراقي لأحد روّاد حركة التجديد والحداثة في الشعر العربي المعاصر، ويُصار إلى مركز للدراسات يحتوي على ما أنجزه وما أنجز عنه، كما تفعل الدول الحضارية السلوك وهي تحترم مواطنيها المبدعين.التكريم؟ هل يحتاجه المبدع بعد رحيله؟
إنه استهانة بإنسانيته، على وفق حسن الظن، أو هو صحوة ضمير وندم، بعد ما عذبته الأنظمة والمنظومات، في حياته، وشرَّدته في المنافي، وطردته عشيرة التنظيم، إلى الجوع الاجتماعي والعزلة الفكرية والموت البطيء، لأنّه «لم يتطابق مع الشروط»، أو بسبب مزاج سيّئ في السلوك المتعالي لكاريزما من بيدهم الأمر! وهذا ما يتكرر في كل عهد وزمان.
لماذا؟ أقول ذلك لأنني لا أرجو ولن أطمح بأن يصنع هؤلاء الكارزميون تمثالاً من طين، لشاعر قال الحقيقة ذات صفاء، أو وجهة نظره فخالف الآخرين، ومضى! فمثل «ولاة الأمر» هؤلاء لا يحبّون أمثال هؤلاء الشعراء المختلفين! لأنّ الثقافة في الأنظمة الشمولية، ارتبطت بالدعاوى والتحريك! ولم تفصل بين المثقف والحزبي، بل أرادت من المثقف أن يخدم الحزبي، ويتحوّل إلى «مثقف» وظيفي من نمط مهادن «ومتعاون!»… وكما أرادوا إخضاع البياتي لمسطرة الأحزاب، كذلك سعوا مع محمد مهدي الجواهري. وحده بدر شاكر السياب أسقطته عداوة سلطة السلوك السيّئ في التنظيم بهذه البئر العميقة، فخسره اليسار، لكن الشعر والحداثة لم تخسراه.
وإليكم هذه الحكاية، ربما لنفهم أبعادها المؤذية، ونتحاشى تكرار الوقوع فيها: حين كان في القاهرة في نهاية الستينيات، بعث البياتي رسالةً إلى هيئة تحرير «الثقافة الجديدة» (مجلة الحزب الشيوعي العراقي) ومعها قصيدة، معتبراً نشر القصيدة إشارة إلى عودته صديقاً للمجلة، ربما ليسترجع مكانته، عضواً في هيئة تحريرها. وضعنا الرسالة والقصيدة على جدول عمل اجتماع هيئة التحرير، لكنّ الدكتورة سعاد خالص اعترضت على قبول صداقة البياتي. ربما استذكرت تنافرهما منذ أيام براغ في سياق أنشطة «لجنة الدفاع عن الشعب العراقي» التي ترأسها الجواهري آنذاك، والتي نسقت مع برتراند رسل لمؤتمر في لندن يدعو إلى إطلاق سراح السجناء والمحتجزين منذ انقلاب 8 شباط 1963الدموي!
توتر النقاش بين كاتب المقال والدكتورة. غادرتُ الاجتماع، فلحق بي الدكتور صفاء الحافظ. وبأريحيته العالية وخبرته في العمل الديموقراطي، قال: «يا رفيق شدّد على موقفك، كي لا نخسر البياتي كما خسرنا السياب»!
انتهى التصويت لمصلحة نشر القصيدة، وحالما عاد البياتي من القاهرة، احتفلت به المجلة بكادرها القيادي ودعته إلى حضور اجتماعها، فجلس بيني وبين سعدي يوسف، وبدأ الرفيق عامر عبد الله إدارة الاجتماع، مرت دقائق، ولم يشر إلى وجود البياتي ولا لتحيته. مرّرت ورقة صغيرة تذكيراً له، وبعد أكثر من عشر دقائق قال باقتضاب:
«لا يحتاج البياتي إلى تحية، فهو من أهل البيت!».
لم ترح هذه الملاحظة البياتي، فتململ قليلاً. لحظتها شعرت بأن الحزب خسر الشاعر! وبالفعل، جاء البياتي بعد أيام، ليلتقينا كعادته في المقهى، فأخبرنا بأنه عُيّن مستشاراً في القسم الثقافي لجريدة «الثورة». وقتذاك كان الشاعر محمد صالح بحر العلوم، قد عيّن أيضاً في نوع من التكريم للشاعرين الوطنيين، ومحاولة استمالتهما للسلطة، أو لتحاشي معارضتهما على الأقل. كذلك خصّصت الحكومة راتباً تقاعدياً للجواهري المقيم في براغ آنذاك، في حين حصلنا بشق الأنفس على راتب تقاعدي من هيئة صندوق تقاعد نقابة الصحافيين للروائي غائب طعمة فرمان حين كان لمّا يزل يعمل مترجماً في «دار التقدم» في موسكو.
يبدو أن مسألة التهميش والإزاحة «عادة عراقية» ليس لدى اليسار وحده، بل هي ظاهرة «شمولية» كأنّ البعض يرتاح حالما يرى هذا المبدع أو ذاك مطروداً خارج «جنَّة الأهل» و«التنظيم!»
البياتي الذي كان في «دار المعلمين» أقرب إلى الوطني الليبرالي، اقترب من اليسار، حين وجد منافسه السيّاب في الهيئة العليا لجبهة الاتحاد الوطني. وحين ضاع السياب في نثره الاعترافي (كنت شيوعياً)، خرج على مسطرة الحزب والتنظيم، وتاه في البراري، وقد أنهكه المرض والعوز، فمات غريباً في الخليج، كما هو حال شاعرنا البياتي:
«إني لأخجل أنْ أعرِّي، هكذا، بؤسي،
أمام الآخرين، وأن أُرَى متسولاً، عريان، في
أرجاء عالمنا الكبير
وأنْ أُمرِّغَ ذكرياتي في التراب
فنحنُ، يا مولايَ، قومٌ طيبون،
بسطاء، يمنعنا الحياءُ، من الوقوف
أبداً، على أبواب قَصْرِكَ جائعين»
كان البياتي معارضاً تقدمياً مستقلاً، وشخصية ذات شهرة عالمية، تحفُّ به صداقات عدَّة مع أدباء كبار مثل ناظم حكمت، وإيفتشنكو، ورافائيل البرتي، ونيرودا وماركيز وساسة وقادة بلدان كرئيس جمهورية المكسيك، وتعاملت معه تلك الجهات كمناضل وشاعر كبير معارض للنظام، وتاريخه الشخصي يشير إلى مواقفه الصلبة مذ تخرَّج في «دار المعلمين» في عام 1950 واشتغل مدرّساً للغة العربية حتى عام 1953 حيث فصل مع عدد من الرموز الثقافية والسياسية بعد انتفاضة تشرين 1952. كما كان عضواً في هيئة تحرير «الثقافة الجديدة» حتى إغلاقها في عام 1954. كذلك، فُصِل من وظيفته واعتُقل بسبب مواقفه الوطنية لأكثر من مرة، حتى تمكَّن من مغادرة العراق إلى سوريا فبيروت ثم القاهرة. وبعد ثورة 14تموز (يوليو) 1958، عيَّنته حكومة الثورة مستشاراً ثقافياً في السفارة العراقية في موسكو. وهناك توطّدت علاقته بالشاعر العالمي التقدمي ناظم حكمت الذي كتب مقدّمة لمختارات من شعر البياتي باللغة الروسية بعنوان «قمر أخضر» صدرت قبيل وفاة ناظم حكمت، فنشرتها وسائل إعلام عدة في أرجاء العالم كونها آخر ما كتبه الشاعر التركي الكبير.
كان مهووساً بالشرقيات والرموز الصوفية ودرجات الحب
كان البياتي مهووساً بالشرقيات والرموز الصوفية ودرجات الحب… ومازج ذلك بما عرف عنه من سردية حكائية تسيطر على أسلوبه، كأنَّهُ يكتب رؤاه وتجلياته الإشراقية، وكان يراوده حلم عن أميرة فارسية تأتيه من نيسابور، حتى إنّه تخيّلها حقيقة واقعية، وكان يرى في ما يرى الحالم، ملهمته تلك، المتحوّلة من أسماء اللواتي ذكرهن في دواوينه، وآخرهن عائشة، بعدما كانا على ودّ أيام الدراسة الجامعية، كما يروي، ويذكر اسمها كأنها آلهة أسطورية، وهكذا يمازج فيها بين حلمه وكثافة قراءاته الصوفية عن العاشق والمعشوق والحب الإلهي، وقد انهمك بخاصة في مجلدات الفتوحات المكية لابن عربي، ولذلك كان يروم السفر إلى إيران ليلتقيها، بعد عمر! إنها عائشة في تحولاتها:
«عائشة تشقّ بطن الحوت
ترفع في الموج يديها، تفتح التابوت
تزيح عن جبينها النقاب، تجتاز ألف باب
تنهض بعد الموت».
وحين عُيِّن مستشاراً ثقافياً في إسبانيا، عاش هناك بين عامَي 1971 و 1980. وكان هذا العقد الأكثر خصباً في تجربته الحياتية والشعرية، ترجمت فيه دواوينه إلى الإسبانية، وبات من الشخصيات العامة في مدريد، على الصعيدين الشخصي والرسمي، بل اعتُبر كما لو كان من شعراء إسبانيا المعاصرين.
عاش في إسبانيا بين عامَي 1971 و 1980، وكان هذا العقد الأكثر خصوبةً في تجربته الحياتية والشعرية
كان ضغط العُزلة والفراغ الوجداني يثقل على صدره، كأنه، حين يغادر المدن، يهرب من المجهول إلى مجهول آخر، كان كقطرة المطر، بالفعل:
«كقطرةِ المطرِ، كنتُ وحيداً
آه يا حبيبتي
كقطرةِ المطرْ، لا تحزني
سأشتري غَداً لكِ القمرْ
ونجمة الضُّحى وبستاناً من الزهرْ
غداً… إذا عدت من السفرْ
غداً… إذا أورقَ في ضُلوعيَ الحجرْ
لكنَّني اليومَ وحيدٌ
آه يا حبيبتي، كقطرةِ المطرْ»
أيها الفقراء احتفلوا بالشاعر فهو بينكم الآن… ينظر إليكم من سمو إشراقاته ويبتسم… وينظر إلى العدو بغضب!
* ملخّص لمقال طويل للناقد العراقي الراحل محمد الجزائري لم ينشر من قبل
سيرياهوم نيوز١_الأخبار