موسكو | تتعالى التحذيرات الغربية من مجاعة تتهدّد العالم، نتيجة نقص إمدادات الغذاء، والذي تحمّل الولايات المتحدة وحلفاؤها، روسيا، المسؤولية عنه، بفعل «عرقلتها الصادرات الزراعية الأوكرانية»، في إطار حربها المستمرّة على البلد الجار. على أن هذه التحذيرات، والتي لا تخلو من وجْه مبالغة وفق ما تعتقد موسكو، لا تعدو كوْنها محاولة لشرح الواقع بطريقة مبسّطة ومختزلة، بعيداً عن كلّ التعقيدات الاقتصادية التي اجتاحت العالم منذ عام 2019. وفي هذا الإطار، تقدّم روسيا رواية مغايرة لما يجري، مُدافعة عن نفسها بسوْق جملة أسباب جوهرية للوضع الحالي، تبدأ من السياسات المتّبعة بوجه تفشّي فيروس «كورونا»، ولا تنتهي بحرْب العقوبات المتواصلة ضدّها، والتي طالت قطاعات شديدة الحيوية في بلد يُعدّ منتجاً رئيساً للحبوب. وانطلاقاً من ذلك، لا تتردّد موسكو في اتّهام الغرب بأنه هو «مَن حكم على العالم بالمجاعة»، معتبرةً أن «التهويل» الغربي لا ينحدر من «شفقة» الرجل الأبيض على فقراء العالم وتحديداً الأفارقة منهم، وإنّما من الخوف، الأوروبي خصوصاً، ممّا ينتظر دول الاتحاد في الخريف المقبل
لم تَعُد تطوّرات الميدان في أوكرانيا هي الهمّ الرئيس الذي يشغل العالم اليوم، بل تداعيات هذه الحرب على إمدادات الغذاء، في ظلّ ما يحوزه البلدان المتحاربان من مكانة في سوق الغذاء العالمي، باعتبارهما منتجَين رئيسَين للحبوب، يشكّلان معاً حوالى 30% من صادرات القمح العالمية، و20% من صادرات الذرة. وقبل أن ينقضي شهر على الحرب الروسية في أوكرانيا، أعلنت «منظّمة الأغذية والزراعة» التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، في آذار الماضي، أن الأسعار العالمية للأغذية والأعلاف قد ترتفع بما يُراوح بين 8% و20% نتيجة الحرب، ما سيؤدّي إلى قفزة في عدد الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية في شتّى أنحاء العالم. كذلك، أعلنت الأمم المتحدة أن أسعار المواد الغذائية العالمية ارتفعت بنسبة 30% تقريباً، عمّا كانت عليه في الفترة نفسها من عام 2021، محذّرة من أن نحو 15 مليون إنسان في أفريقيا مهدّدون بخطر المجاعة، فيما نبّه الأمين العام للمنظّمة الدولية، أنطونيو غوتيريش، إلى «خطر مجاعة عالمية تستمرّ لسنوات».
استغلّ الغرب خروج كلّ تلك التحذيرات لتحميل روسيا مسؤولية «المجاعة القادمة»، وارتفاع الأسعار في أسواق الغذاء العالمية. وقد أرجعت «مجموعة السبع»، مثلاً، ما يحصل إلى «عرقلة موسكو للصادرات الزراعية الأوكرانية»، متوعّدة بالردّ على «حرب القمح» التي يخوضها الروس. في المقابل، تُقدّم روسيا رواية مغايرة لما يجري، مفنّدة الاتهامات التي تطالها بشأن مسؤوليّتها عن الأزمة. وتُدافع موسكو بأن سياسة العقوبات التي طالتها تُعتبر من الأسباب الجوهرية للوضع الحالي، خاصة وأن العقوبات طالت سوق الأسمدة الروسية ومِن قَبْلها البيلاروسية، وهذا ما يؤثّر بشكل مباشر على الزراعة في دول العالم أجمع، علماً أن روسيا وبيلاروسيا أنتجتا في 2021 أكثر من 40% من الصادرات العالمية من البوتاسيوم، الذي يمثّل واحداً من ثلاثة مغذّيات أساسية تُستخدم لتعزيز إنتاج المحاصيل الزراعية. كذلك، استحوذت روسيا على حوالى 22% من الصادرات العالمية من الأمونيا، و14% من صادرات العالم من اليوريا، وحوالى 14% من فوسفات الأمونيوم الأحادي، وجميع هذه المواد تُعتبر من المواد الرئيسة للأسمدة. أيضاً، أثّرت العقوبات على التعاملات التجارية مع الخارج، خاصة بعد تجميد الاحتياطات الدولية لروسيا، وإحجام دول عدّة عن القيام بتبادل تجاري مع موسكو مخافة تعرّضها لعقوبات أميركية.
بناءً على ما تَقدّم، أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في محادثة هاتفية مع رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، استعداد بلاده لتصدير الحبوب والأسمدة إذا رُفعت عنها العقوبات. ووفقاً لبيان الكرملين، فقد أوضح بوتين أن الصعوبات التي نشأت أخيراً، تتعلّق، من بين أمور أخرى، باضطرابات في تشغيل سلاسل الإنتاج واللوجستيات، وكذلك بالسياسة المالية للدول الغربية خلال أزمة فيروس «كورونا»، بالإضافة إلى «القيود المعادية لروسيا، والتي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي». وفي الاتّجاه نفسه، كان مساعد الرئيس الروسي، ماكسيم أوريشكين، قد حمّل الدول الغربية مسؤولية «المجاعة التي تهدّد الكوكب»، بسبب إجراءاتها الاقتصادية «الخاطئة» التي بدأت مع انتشار «كورونا». وبيّن أوريشكين أن 60% من ارتفاع الأسعار عالمياً ناتج من طباعة الدولار الكثيف في الاقتصاد الأميركي، وهو ما جعل الوضع يتطوّر خارج نطاق السيطرة، متّهماً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنهما «حكما على العالم بالمجاعة». ويوضح الخبراء الروس أن النموّ في تكلفة القمح والحبوب، سواءً في العالم أو في روسيا، بدأ في عام 2020، على خلفية انتشار «كورونا» وانقطاع سلاسل التوريد، وتشكيل احتياطيات استراتيجية من قِبَل الدول (اشترت الصين 60% من الحبوب في العالم خلال العامَين الماضيَين)، والمخاوف من حدوث نقص نتيجة العوامل الطبيعية، وهو ما بدأ يتأكّد يوماً بعد آخر مع إعلان العديد من الدول تراجُع محاصيلها الزراعية نتيجة الجفاف، مثل الصين والهند، والآن بسبب التوتّرات الجيوسياسية.
أكد بوتين استعداد بلاده لتصدير الحبوب والأسمدة شرط رفع العقوبات عنها
أمّا بشأن اتّهام روسيا بالتسبّب بإعاقة إمدادات القمح والمواد الغذائية من أوكرانيا، فتردّ موسكو بأن كييف هي التي تسبّبت بتعثّر نقل البضائع الأوكرانية عبر البحر، بعد أن قامت بزرع ألغام مقابل مرافئها، في ماريوبول وخيرسون وأوديسا وبرديانسك وسكادوفسك. وفي هذا الإطار، فنّد بوتين لرئيس الوزراء الإيطالي الخطوات المتّخذة لضمان سلامة الملاحة، «بما فيها فتح ممرّات إنسانية يومية لخروج السفن المدنية من موانئ آزوف والبحر الأسود، الأمر الذي يعيقه الجانب الأوكراني». بدورها، أبدت وزارة الخارجية الروسية استعداد موسكو لتوفير ممرّات إنسانية لفكّ الحصار المفروض على الموانئ الأوكرانية، «لكن على كييف أولاً أن تنزع الألغام التي زرعتها». كما أعلنت الوزارة أن 5 سفن أجنبية تمكّنت من مغادرة ميناء ماريوبول بعد أن قام خبراء الألغام الروس بتطهيره من الألغام.
من جهته، أكد رئيس اتّحاد منتجي الحبوب الروسي، أركادي زلوشفسكي، أن بلاده «لم تفرض أيّ قيود على توريد البضائع الأوكرانية. لقد قاموا هم أنفسهم بتفخيخ موانئهم ويضطرّون الآن إلى إرسال الحبوب بالسكك الحديدية بوتيرة أبطأ بكثير». ولفت زلوشفسكي إلى أن «25 مليون طن من الحبوب المحجوزة في الموانئ الأوكرانية لن تساعد في حلّ أزمة الغذاء أو تحسين الوضع المالي للدول الأوروبية». وبحسب الخبراء الروس، فإن أوكرانيا توفّر 9.2% فقط من الاستهلاك العالمي السنوي من الحبوب، والبالغ نحو 440 مليون طنّ، 4% منها تذهب إلى أوروبا. ويوضح الخبراء أن هذا الرقم لا يشكّل «ثقلاً استراتيجياً في أوروبا، ولا بالنسبة للولايات المتحدة». كما يبيّنون أن الإجراءات التي اتّخذتها دول مثل الهند وإندونيسيا بحظر توريد القمح وزيت النخيل تسبّبت أيضاً في رفع أسعار الغذاء عالمياً، فيما كان لتصاعد أسعار الغاز والنفط دور مباشر في ما يحصل نتيجة ارتفاع تكلفة الإنتاج الزراعي عالمياً.
وعلى رغم كلّ ما تَقدّم، يعتقد رئيس اتحاد منتجي الحبوب الروسي، أركادي زلوشفسكي، أن «الحديث عن أزمة الغذاء هو مجرّد تهويل»، معتبراً أن «الادّعاءات بأننا في خطر المجاعة العالمية لا أساس لها من الصحة، لأنه لا يوجد نقص في الموارد الغذائية». ويستدلّ زلوشفسكي على ذلك بأنه «على رغم انخفاض مخزون الحبوب حالياً، إلّا أنه ليس بمستوى ما حصل عام 2008، الذي شهد أدنى مستوى من المخزونات عالمياً». ويشير إلى أنه من المتوقّع أن يكون نقص الحبوب في أسواق التصدير هذا العام عند مستوى 20-25 مليون طنّ، وهو ما سيكون تأثيره أكبر على البلدان الفقيرة. أمّا بشأن التحذيرات الغربية من مجاعة قادمة، فيقول الخبراء الروس إنه يمكن للمصدّرَين الرئيسين الآخرين إنقاذ السوق العالمية من انهيار الحبوب، مثل الولايات المتحدة (تنتج 26 مليون طن)، كندا (25 مليون طن، أو ما يقرب من 12.4% من الصادرات العالمية)، فرنسا (19 مليون طن)، ألمانيا (9.2 مليون طن). ويرى الخبراء أن «هذه الدول تستعمل ورقة المجاعة لضرب صورة روسيا في العالم، وليس شفقة منها على ما قد يحصل في الدول الفقيرة وخاصة في أفريقيا»، متّهمين الأطراف الغربية بأنها «غير مستعدّة لمشاركة مخزونها من الحبوب مع المحتاجين، وستتناسى الجياع في العالم، لأنها ستعطي الأولوية لأمنها الغذائي فقط».
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار