| علاء الحلبي
لم يكن الهجوم الأخير الذي شنّه مسلّحو «داعش» على حافلة للجيش السوري، أمراً مفاجئاً، في ظلّ تنامي هجمات التنظيم في الفترة الأخيرة واتّباعه أسلوب العمليات الخاطفة، الأمر الذي يجعل تعقّبه والقضاء عليه مهمّة معقّدة. غير أن محاولة تتبُّع نشاط «داعش» ومراكز ثقله وانتشاره، تكشف عن شبكة متداخلة من العلاقات والمصالح التي نسجها مسلّحوه، بالإضافة إلى تحصّنه في «ملاذات آمنة» عديدة توفّر له الحدّ الأدنى من الاستمرار
ثلاث عمليات متتالية نفّذتها القوات الأميركية في سوريا ضدّ زعيمَي تنظيم «داعش» (أبو بكر البغدادي وسلفه أبو إبراهيم القرشي) وأحد أكبر قادة التنظيم (هاني أحمد الكردي، «والي الرقة» السابق)، حيث كانوا يختبئون في مناطق خاضعة لسيطرة تركيا في الشمال السوري. هذه العمليات فتحت الباب أمام تساؤلات عديدة حول سبب اختيار قادة «داعش» مناطق الشمال تحديداً للاختباء، في وقت تشنّ فيه مجموعات تابعة للتنظيم هجماتها في أماكن بعيدة نسبياً وسط سوريا (في البادية)، إضافة إلى سبب ارتفاع وتيرة هجماته في الفترة الأخيرة، بعد حالة «ستاتيكو» مؤقّتة حاول خلالها تنفيذ عمليات متباعدة لإثبات وجوده.
مصادر ميدانية وعسكرية سورية تربط، في حديثها إلى «الأخبار»، ذلك الارتفاع بمجموعة من العوامل، أبرزها الرغبة الأميركية في ضمان استمرار وجود التنظيم، كونه يؤمّن غطاء لبقاء قوّاتها في سوريا، وهو ما تستدلّ عليه المصادر بوجود علاقة واضحة بين قاعدة التنف التي تتمركز فيها القوات الأميركية في المثلّث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، وبين الجماعات التابعة لـ«داعش» والتي تختبئ في البادية السورية، ضمن خريطة انتشار معقّدة ومتبدّلة، تعتمد على أسلوب الجماعات الصغيرة التي تعمل بشكل منفصل، ما يجعل القضاء عليها أمراً صعباً. وتشير المصادر ذاتها إلى أن التنظيم ضاعف هجماته وخرج من حالة سكونه فور إعلان الولايات المتحدة بقاء قواتها في سوريا بذريعة «محاربة الإرهاب»، وما تبع ذلك من هروب عدد من مقاتلي «داعش» وقياديّيه من سجن الصناعة في الحسكة، بالإضافة إلى عمليات الهروب المتتالية من سجون تسيطر «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) عليها وتشرف عليها واشنطن، وآخرها هروب عدد من القياديين من سجن الرقة المركزي قبل أيام، في واقعة أكّدتها مصادر ميدانية لـ«الأخبار» على الرغم من نفي «قسد» لها، والذي تَعتبره المصادر محاولة للتعتيم على الحادثة.
وفي وقت تؤكد فيه دمشق امتلاكها معلومات دقيقة حول ارتباط قاعدة التنف – التي تتمركز فيها أيضاً قوات سورية تدرّبها واشنطن – بنشاط مقاتلي «داعش»، عبر تقديم إمدادات عسكرية ولوجستية للتنظيم، تَكشف غارة نفّذتها طائرة روسية على أطراف القاعدة الأسبوع الماضي خلال ملاحقتها مقاتلي «داعش»، والصمت الأميركي إزاء هذه الغارة، حقائق متزايدة عن ذلك الارتباط. وترسم خريطة السيطرة في سوريا – حيث تهيمن تركيا على أجزاء من الشمال والشمال الغربي والشمال الشرقي، و«قسد» على مناطق في الشمال الشرقي والشرق، بالإضافة إلى تمركز القوات الأميركية في «التنف» -، بعد مقاطعتها مع نشاط التنظيم، شبكة من المصالح المتداخلة بين مسلّحي «داعش» والقوى المسيطرة على الأرض؛ إذ توفّر المناطق التي تشرف عليها تركيا وتتمركز فيها فصائل عدّة غير مترابطة بيئة مناسبة لقياديّي التنظيم، الذين يمتلكون في تلك المناطق مراكز إدارة وقيادة ومعدّات اتصال، في وقت تُعدّ فيه البادية مثالية لنشاطهم، بسبب تضاريسها الجغرافية الصعبة ومساحاتها الشاسعة.
توفّر السجون «بيئة عمل آمنة» لمقاتلي «داعش» الذين تمكّنوا من استغلالها في تنظيم صفوفهم
وتوفّر السجون، أيضاً، «بيئة عمل آمنة» لمقاتلي «داعش» الذين تمكّنوا من استغلالها لتنظيم صفوفهم، واستطاعوا بناء علاقات مصلحة مع المسؤولين عنها، سواءً في مناطق «قسد» التي تستثمر ملفّ «داعش» سياسياً، أو في مناطق سيطرة الفصائل التابعة لتركيا في الشمال، والتي تُعتبر هذه السجون بالنسبة إليها مصدر دخل، حيث يَدفع السجناء بشكل دوري مبالغ مالية للحصول على الطعام وبقيّة مستلزمات المعيشة. وبينما يتمّ التركيز على سجون «قسد»، تحظى السجون التي تضمّ مقاتلين وقياديين من «داعش» في مناطق الجماعات المدعومة تركياً، بتعتيم إعلامي، حيث تؤكد مصادر معارضة تحدّثت إلى «الأخبار» وجود المئات من هؤلاء في سجون منتشرة في محيط أعزاز وقرى عفرين، وسط اتّهامات للفصائل بإطلاق سراح عدد منهم لقاء مبالغ مالية كبيرة وصلت في بعض الأحيان إلى نحو 20 ألف دولار، وإيصالهم إلى البادية للانضمام إلى الجماعات الصغيرة المنتشرة هناك.
وأمام الشبكة المعقّدة التي بناها التنظيم، وتقاطُع المصالح السياسية وحتى المالية مع بعض القوى المسيطرة في سوريا، تبدو المهمّة العسكرية المتواصلة في البادية، سواءً عن طريق عمليات التمشيط الراجلة التي تنفّذها قوات الجيش، أو عمليات الرصد الجوي والاستهداف التي تنفّذها طائرات سورية وروسية، شاقّة ومُنهكة، وهو ما عبّر عنه مصدر ميداني بالقول إن ما يجري «يخدم مصالح واشنطن وأنقرة عبر ضمان وجود بؤرة إشغال تستنزف قوات الجيش السوري»، موضحاً أن القضاء على التنظيم «يتطلّب القضاء على الظروف التي تضمن استمراره، وإلّا فإن الهجمات ستستمرّ، وهو ما تدركه دمشق وموسكو، وتستثمره واشنطن، التي تنفّذ بين وقت وآخر عمليات استعراضية».
سيرياهوم نيوز3 – الأخيار