| علاء حلبي
تعيش سوريا، منذ أسابيع، أزمة شحّ خانقة في المحروقات، انعكست على مختلف مناحي الحياة، وأدّت إلى تعطّل العديد من المصالح الحيوية، وأَجبرت المُواطنين على اللجوء إلى وسائل بدائية للتدفئة والتنقّل. وعلى رغم أن السلطات تحاول ابتداع أساليب للتغلّب على تداعيات «القرصنة» التي تعرّض لها قطاع النفط في البلاد برعاية أميركية، وتجاوُز تأثيرات الحصار الذي عمّقه قانون «قيصر»، إلّا أنه حتى هذا المتنفّس البسيط تريد واشنطن تسكيره أمام السوريين، وهو ما تنبئ به مضايقاتها المتكرّرة للخطّ الائتماني الإيراني، والذي تؤدّي «بلطجتها» الدؤوبة على طُرق الشُحنات المرتبطة به، إلى رفْع تكاليف إيصال المحروقات، جرّاء الشبكات المعقّدة التي تمرّ عبرها الأخيرة لتتمكّن من دخول سوريا، وفق ما تؤكدّه مصادر مطّلعة لـ«الأخبار»
شتاء بارد آخر تعيشه سوريا، في ظلّ أزمات اقتصادية ومعيشية عدّة تنوء تحتها البلاد، ليس آخرها شحّ موارد الطاقة بشتّى أنواعها. بمجرّد حلول المساء بظلامه الدامس على وقْع التقنين الكهربائي القاسي، تَظهر الشوارع فارغة من المارّة، فيما تُركن السيّارات جانباً، بعد أن تكون محطّات النقل العامة قد ازدحمت بآلاف المواطنين الذين ينتظرون وسيلة تقلّهم إلى أعمالهم أو تعيدهم إلى منازلهم. هكذا، أصبح التنقّل رفاهية، حاله كحال التدفئة التي يحاول السوريون تجاوُز حِملها عن طريق استكشاف سُبل جديدة لإشعال النار، في وقت وصلت فيه أسعار المحروقات في السوق السوداء (السوق الوحيدة تقريباً التي تُوفّر هذه المادّة)، إلى أرقام لم يكن يَعتقد أشدّ المتشائمين أن تصل إليها. هذا المشهد، دفَع وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسّق الشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، إلى وصْف الأوضاع بأنها «خطيرة»، والإعلان، خلال إحاطة قدّمها في مجلس الأمن قبل نحو ثلاثة أسابيع، أن «عدد المحتاجين إلى مساعدات إنسانية سيرتفع من 14.6 إلى 15 مليوناً عام 2023»، بالتزامن مع اتّساع الفجوة بين الاحتياجات والتمويل، جرّاء تقليص الدول المانحة حجم المساعدات بشكل متتابع على وقْع الحرب في أوكرانيا، التي تصدّرت اهتمامات تلك الدول.
يتعرّض الخطّ الائتماني الإيراني الذي يمثّل أبرز مصادر الطاقة بالنسبة إلى سوريا لمضايقات أميركية متتابعة
قبل اندلاع الحرب في سوريا، كانت تنتج البلاد نحو 400 ألف برميل يومياً، وفق إحصاءات رسمية سورية. وهي كمّيات تضاءلت مع تصاعُد الحرب واستمرارها، سواءً بسبب الأضرار البالغة التي تعرّضت لها حقول النفط، حيث تُقدّر الحكومة السورية خسائر قطاع النفط حتى الآن بنحو 112 مليار دولار، أو بسبب تَحوّل النفط إلى سلعة تُحكِم مجموعة من التجّار والوسطاء سيطرتها عليها (في منابع النفط التي تسيطر عليها «قسد»). وتُقدّر الحكومة السورية الإنتاج الحالي بنحو 89 ألف برميل، تشرف واشنطن على تهريب معظمها، سواءً إلى خارج سوريا (كردستان العراق)، أو إلى مناطق سيطرة الفصائل في الشمال السوري، أو بيعها لوسطاء يقومون بتسويقها بمعرفتهم، فيما تتمّ تغطية بعض الاحتياجات المحلّية في مناطق سيطرة «قسد» عن طريق تكرير النفط بشكل بدائي، الأمر الذي أدّى إلى وصول التلوّث إلى مستويات قياسية.
وأمام الأوضاع المعقّدة التي تحيط بملفّ النفط، تعلن الحكومة السورية (التي تتعرّض لانتقادات مستمرّة حول آلية إدارتها هذا الملف)، بين وقت وآخر، إجراءات لتأمين المحروقات عن طريق وسطاء، أو استيرادها بشكل مباشر أو عبر السماح لشركات خاصة بتوفيرها. وتشكّل إيران، في الوقت الحالي، أحد أبرز مصادر تأمين الوقود بعد إعادة تشغيل الخطّ الائتماني، الذي جرى تفعيله عقب زيارة أجراها الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى طهران في شهر أيار الماضي، حيث تقوم الأخيرة بإرسال شحنات من النفط بشكل دوري، تغطّي جزءاً من احتياجات حليفتها. وفي هذا السياق، تشير مصادر سورية مطّلعة، في حديثها إلى «الأخبار»، إلى أن الخطّ الائتماني الإيراني، الذي يمثّل أبرز مصادر الطاقة بالنسبة إلى سوريا، يتعرّض لمضايقات أميركية متتابعة، تتركّز بشكل أساسي على طُرق إيصال الشُحنات، ما رفع من تكاليف إيصالها جرّاء الشبكات المعقّدة التي تمرّ عبرها لتتمكّن من دخول سوريا.
في الوقت الحالي، ومع احتدام الصراع الأميركي – الروسي على خلفية الحرب في أوكرانيا، ومحاولة واشنطن عرقلة مساعي الحلّ الروسية في سوريا، لا يبدو أن ثمّة آفاقاً واضحة لتغيير الأوضاع المعيشية، خصوصاً مع إصرار الولايات المتحدة على تشديد العقوبات. إصرارٌ ينذر بمزيد من التدهور ما لم تطرأ تغيّرات سياسية تعيد ترتيب المشهد، سواءً عبر نجاح موسكو في فتْح الأبواب المغلقة بين دمشق وأنقرة وما سيتبع ذلك من ضغوط متواصلة لإخراج القوات الأميركية من سوريا، أو إعادة تفعيل مسار الحلّ الأممي المجمَّد، والذي ترغب واشنطن في إحيائه بحثاً عن دور لها في رسم شكل «مُرضٍ» للتسوية.