آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » شعريّــةُ “أحمـــد يوســـف داود” فـــي المنظـــــورِ النّقــــــــدي

شعريّــةُ “أحمـــد يوســـف داود” فـــي المنظـــــورِ النّقــــــــدي

 

*أحمد عزيز الحسين

وقعتْ معظمُ الدّراسات التي تناولتْ إبداعاتِ أحمد يوسف داود في فخّ المُماثَلة بين العالَم التّخيُّليّ الذي بناه في نصوصه الإبداعيّة والمرجع الخارجيّ الذي تُحِيل إليه هذه النُّصوص، وتعاملتْ مع عالمه التّخيُّليّ على أنّه انعكاسٌ للمرجع الخارجيّ لا على أنّه انزياحٌ عنه، أوتحريفٌ له، ولم تحرص، عند مقاربتها لنصوصه، على البحث عن شعريّتـها (أي، عن الخصائص النّوعيّة التي صارت بها هذه النّصوصُ أدبًاً )، بل حاولتْ إخضاعَها لرؤية أيديولوجيّة مُسبَقة، والنّظر إليها بوصفها وثائقَ اقتصاديّةً أو اجتماعيّةً أو سياسيّةً ذواتِ دلالاتٍ معيَّنةٍ، ولذا لم تكن هذه الدِّراسات سوى مقارباتٍ خارجيّةٍ لأنّها لم تقترب من البُنى الدّاخليّة لنصوصه، ولم تبحث فيها عن الخصائص الجوهريّة للمادّة الأدبيّة، ولم تسعَ إلى معرفة كيفيّة تشكيل هذه الخصائص، وتواشُجها في كلٍّ فنيٍّ مُوحَّد، بل بقيتْ عند حدود الفهم السّطحيّ لعلاقة النّصّ الأدبيّ بالمجتمع، سواءٌ أكان هذا الفهمُ تبسيطيّاً ساذَجاً، وهو يتحدّث عن انعكاس البيئات الاجتماعيّة في النّصّ الأدبيّ، أو وهو يُقيمُ تماثُلا بين البنيتين النّصِّيَّة والاجتماعية كما تقتضيه نظريّة الانعكاس لدى جورج لوكاتش.
هكذا تماشت هذه الدِّراسات مع هيمنة العامل الخارجيّ على النّقد الأدبيّ السّوريّ، ولم تلتفت إلى اكتناه خصوصيّة النّصّ الإبداعيّ، أو تحاول الكشفَ عن العناصر البنائيّة والأسلوبيّة التي أسهمت في تخلُّقه؛ ممّا أوقعها في شرَك الشّرح التّعليليّ، أو في شرْحِ الأصول التي انبثق عنها هذا الأدبُ، وهكذا وقفتْ حائرةً أمام وصف النًصّ، وأخفقتْ في تحليل بنيته، والكشف عن دلالته.
وقد أمسى نصُّ داود الأفضل، وفق المنهج السّابق، هو الذي يُتِيح للنّاقد تطبيقَ الرُّؤية المُسبَقة التي يمتلكها، أو الموروث الفكريّ الذي يختزنه، بحيثُ أُلبِسَتْ كائناتُه التّخيُّليّة لَبُوسَ كائنات الواقع الحقيقيّ الموجود خارج النّصّ، أو نُظِّمتْ أفكارُ الشّخصيّات وفق ما تقتضيه آليّةُ التّفكير في الزّمان الذي نتناسج معه، ونُوقِشَ عالمُ النصِّ التّخيُّليّ بوصفه واقعاً ملتحماً بذات الكاتب لا بوصفه نتاجاً فنيّاً منفصلا عنه.
وفي ظنّي أنّ نظريّة الخلق الأدبيّ تتطلّب حدوثَ افتراقٍ بين البنية النّصيّة والبنية الاجتماعيّة، كما تتطلّبُ وجود ذاتٍ تنظر إلى البنية الاجتماعيّة وفق منظورٍ معيّنٍ، وبعبارة أخرى : إنّ الأدب يُحِيل إلى الواقع بوصفه مرجعاً له، إلا أنَّ الأدب ينزاحُ بالضّرورة عن هذا الواقع، ويُفارِقه، ولا يُماثِله، وحين يتعالق الواقعُ الموضوعيّ مع نصٍّ أدبيٍّ ما فإنه يُضطّرُّ إلى التّخلِّي عن طابَعه ( الموضوعيّ) ليُمسِيَ واقعاً ذاتيّاً فنيّاً مُحرَّفاً عن هذا الواقع ( الموضوعيّ)؛ ولهذا لايمكن للأدب أو الفنَ أن يُقدّم رؤيةً موضوعيّةً للواقع العِيانيّ المُشخَّص كما تفعل الفلسفةُ والفكرُ عموماً، لأنّ الرُّؤية الموضوعيّة تستدعي استبْعادَ ( الّذّاتِ) عند عمليّة التّخلُّق الفنّيّ، في حين أنّ الأدب يتطلّب حضورَ هذه الذَات التي تقوم بخلق انفصالٍ ومسافةٍ جماليّةٍ بين العالم الفنّيّ المُتخيَل والعالم الموضوعيّ المستقلّ، والمُفارِق لهذه الذّات.
وفضلا عن ذلك كله، فإنّ الدّراسات، التي تناولتْ نصوص داود الرِّوائيّة بشكل خاصٍّ، لم تنظر إلى العنصر السّرديّ بصفته عنصراً فنيّاً مرتبطاً ببنية النّصّ ، وداخلا في علاقة اتّساقيّة مع عناصر أخرى في النّصِّ نفسه، بل فصلتْهُ عن بنيته النّصيّة، وألحقتْهُ ببنية أخرى مستقلَّة عنه هي بنية المرجع الخارجيّ (مناقشة وعي حامد وأمّه في رواية الخيول، مثلا)، فخلطتْ بذلك بين البنية النّصيّة والبنية الاجتماعيّة، أو بين الواقعة الأدبيّة والواقعة الحياتيّة، ولم تُقِم اعتباراً لوجود (النّسق) الذي هو استعمالٌ نوعيٌّ للمادّة، كما لم تُقِم اعتبارا للاختيار الذي وقع على المادّة المُستعارَة من الحياة، أو لدورها البنائيّ، باختصار: إنّ وجهة النّظر المذكورة لم تضع في حسبانها أنّ وسطاً ما يتلاشى في حين تبقى الوظيفة الأدبيّة التي أنتجها بوصفها نسقاً أدبيّاً محتفظاً بدلالته خارج كل علاقة بذلك الوسط.
لقد عُومِلتْ بعضُ شخصيات داود الرّوائيّة كـ ( كائناتٍ حيّة) ، ووُضِعتْ موضع التّساؤل والمحاكمة ( ثابت المرعوش في رواية ” الأوباش ” مثلاً )، لكأنّ أهميّة النّصّ تتحدّد بمستواه المرجعي لا التّخيُّلي، هكذا تمّت المماثلةُ بين النّصّ ومرجعه، أو بين البنية النّصّيّة والبنية الاجتماعيّة، ولم يُنظَر إلى المُسوّغات الفنيّة التي جعلت الكاتب يخلق كائناته التخيّليّة أو الورقيّة التي لا تتطابق إطلاقاً مع الكائنات الحقيقيّة الموجودة في البنية المرجعيّة التي يُحِيلُ إليها النّصُّ.
إنّ عدم تفريق بعض النّقّاد بين (الرّاوي ) الذي ينوب عن الكاتب في سرد متنه الحكائيّ، ويسمح له بممارسة لعبة الإيهام بالواقع، والذي هو كائنٌ من ورق، وشخصيّة مُتَخيُّلة موجودة في بنية لغويّة مفارقة لـ (الواقع الموضوعيّ) وبين (الكاتب) الذي هو إنسانٌ من لحم ودم، وموجودٌ في بنية أخرى هي بنية الواقع الموضوعيّ، أو البنية الاجتماعيّة، جعلتهم ينسبون كلَّ ما ماهو موجودٌ في النّصّ إلى الكاتب مباشرة، ويحمّلونه مسؤوليّة كلِّ صغيرة وكبيرة فيه، ويساوون بينه وبين هذا الرّاوي، رغم انفصاله عنه، وكون كلِّ منهما موجوداً في بنية مغايرة لبنية الآخر؛ هكذا صار (الرّاوي المشارِك) في روايات داود هو ( الكاتبَ) نفسه، وأمسى المسؤولَ عن تصرُّفات شخصيّاته، رغم انفصالها عنه، ووجودها في سياق فنّيِّ مُتخيَّل مُفارِق للواقع الموضوعيّ. وفضلا عن ذلك، لم يُفصَل بين الكاتب ، بوصفه مُبدِعاً، وبين نصِّه الذي أبدعه، بل نُظِر إليه على أنّه ملتحمٌ به، لكأنّ العمل الفنّيَّ لا يملك مُسوِّغاتِ استقلاله عن مؤلِّفه، بل تربطه به مشيمةُ الولادة؛ هكذا كانت هذه الدّراسات تحلِّق فوق البنى الفنيّة لنصوصه، وتصفها من خارجها، ولا تنظر إليها من الدّاخل إلا على استحياء


(سيرياهوم نيوز4-صفحة الكاتب)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أليس مونرو… عملاقة القصة القصيرة

محمد ناصر الدين     لم يجانب الصواب نقّاد الأدب حين قارنوا أعمال الكندية الراحلة أليس مونرو (1931-2024) بروائع جويس وتيشخوف، إذ إنّ المتوغل في ...