حين يرحل المبدعون الكبار، يفتقد العالم شيئاً من جماله، وتفتقد مدنهم ضوءاً باهراً، وهذا ما حدث مع بيروت، واللد، مدينتي الشاعر والمترجم الفلسطيني – اللبناني اسكندر حبش، الذي غادر عالمنا في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2025.
حين يرحل المبدعون الكبار، يفتقد العالم شيئاً من جماله، وتفتقد مدنهم ضوءاً باهراً، وهذا ما حدث مع بيروت، واللد، مدينتي الشاعر والمترجم الفلسطيني – اللبناني اسكندر حبش، الذي غادر عالمنا في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2025.
عاش في بيروت، ويصح القول إنه عاش بيروت، فحفظها وفهمها، أمّا فلسطين فكانت قصّته الدائمة الحضور في وعيه وشعره واهتماماته، وفي اهتماماته في السنوات الأخيرة، لمّا التقى بـ«أكاديمية دار الثقافة» في مخيم مار الياس في بيروت، وعزز اهتمامه بعد رحيله، لمّا أهدى مكتبته إلى الأكاديمية، التي احتفت به في حياته، عبر أكثر من لقاء، وعبر كتاب «إسكندر حبش… ضوء الأمكنة المتناغمة (عن الشعر والحياة وفضاءات أخرى)» الصادر عن «دار الفارابي» في بيروت، وهو حوار مهم ومطوّل أجرته معه الشاعرة والفنانة الفلسطينية تغريد عبد العال، والمشرفة على أنشطة الأكاديمية منذ تأسيسها.
وحسناً فعلت زوجته شيرين موسى حبش، بأن وضعت المكتبة في «أكاديمية دار الثقافة»، بعدما قررت التبرع بمكتبة اسكندر التي توافرت على آلاف الكتب، التي جمعها عبر سنين طويلة من القراءة والكتابة والترجمة، وربما ما قاله الراحل طلال سلمان عن اسكندر يوضح شيئاً عن علاقة اسكندر بالكتب: «يتعب اسكندر حبش من الكلام، لكنه لا يتعب مع القراءة، فإذا تعب منها كتب» (طلال سلمان، «السفير»، 29/11/2002).
وضعت شيرين مكتبة زوجها ورفيق دربها في المخيم، ليستفيد منها الجميع، ولا سيّما أن «الأكاديمية»، وإن كان مقرّها في مخيم مار الياس، إلا إنها تعمل في أماكن عدة، حتى في بلدان أخرى كسوريا، وذلك لأنها تجسيد لمشروع ثقافي، افتقرت إليه المخيمات الفلسطينية منذ سنوات، وللدقة أكثر، افتقر إليه المشروع السياسي الفلسطيني ككل. وليس نافلاً ولا نافراً القول، إنّ المشروع الوطني الفلسطيني تهشّم لمّا غاب المشروع الثقافي.
لذا، فهذه الأكاديمية التي تعمل منذ سنوات قليلة، أعادت الحيوية بشكل أو بآخر للملف الثقافي، بوصفه بوصلة، وبوصفه ضرورة، وليس مجرّد خيار للقضية الوطنية. لقد غاب الفعل الثقافي عن الساحة الفلسطينية منذ سنوات طويلة، فبتنا أمام مشاريع فردية، أدبية وفنية وموسيقية وسينمائية ومسرحية، بعضها ينجح في اكتساب جماهيرية، وحضور شعبي، وبعضها لا.
لكن القاسم المشترك بين كل هذه المشاريع الفردية، أنها وإن كانت تخوض النضال من بوابة الثقافة، إلا أنها، ولتهميش السياسة الفلسطينية للعامل الثقافي، لا تستثمر في الإطار النضالي العام. عكس ما كان عليه الحال في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ولعل «الأكاديمية» تنجح في إعادة الاعتبار للثقافة والعمل الثقافي، بوصفهما موجة للسياسة، ومؤطراً يبثّ الوعي في الناس، فيعودون إلى دورهم في المطالبة بحقهم. فالثقافة تساعد الإنسان لينادي بحقه.
ووجود مكتبة اسكندر حبش، الشاعر والمترجم الفلسطيني – اللبناني في «الأكاديمية» يعزز ما ذهبت إليه، ولا سيّما أنّ اسكندر ظل حتى لحظاته الأخيرة ملتزماً بالعلاقة بين الثقافة والسياسة، ولذلك يقول في الحوار المذكور أعلاه: «كل شيء مسألة نيّة.
هذا هو أساس الالتزام (الأساس الذي يُميز الثور عن المتمرّد)، والذي يتمثّل في تكليف الأدب، مُسبقاً، بمهمة صياغة أيديولوجية، وأخلاق، وعقيدة سياسية، وصياغتها في خطاب نضالي احتجاجي، إلخ» (ص61). يقول هذا، وهو يضيف موضحاً أنه مبدع غير «ملتزم» بالمفهوم السارتري، ويوضح هدفه من الكتابة بالقول: «كان هدفي الأساسي مهاجمة اللغة بشكل مختلف، فيما لو جاز القول، اللغة السائدة التي نسمعها في الإعلام والخطاب السياسي المعادي للمقاومة بمفهومها العام.
وهي في عمقها أيضاً تؤكد بوضوح رؤية سياسية وتقدم قراءة نقدية للحدث، ونفهم فوراً من أين أتحدث» (المصدر نفسه، ص63). إنّ الذي قال الكلام السابق، لا يستغرب على الإطلاق أن يكون قد أوصى بأن تذهب مكتبته إلى مكان كالمخيّم، بما هو مكان لقضية سياسية وإنسانية كالقضية الفلسطينية.
في الكلام السابق، محاولة لتحية اسكندر حبش، لقوته، لقدرته على التمسك بالحلم، لإيمانه بأنه باقٍ ولن يرحل، فقد قرّر أن يستمرّ بيننا بكتبه الكثيرة، شعراً وترجمة، وبمكتبته التي تشبه الروح. وفي الكلام السابق مناسبة لتحية «أكاديمية دار الثقافة» التي قالت في بيان استقبال المكتبة «شكراً اسكندر حبش»، فشكراً لها أيضاً. فالمكتبة والكتب في المخيّم، ستعالج آلاماً كثيرة، ولا سيّما إن ساعدت أو ألهمت أحدهم على الكتابة، هكذا على الأقل قال اسكندر في حواره مع تغريد: «بكتابة نصٍّ، أياً كان، أدبياً كان أم لا، قصيراً أم طويلاً، قوياً أم باهتاً، فهي تُحاسب المرض وتُخبره، أننا ما زلنا هنا، على قيد الحياة. وهذا يُمكن أن يُصبح فعلاً من أفعال القوة». وكم يحتاج الإنسان إلى القوة.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الاخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
