بين عامي 1997 و2024 دارت الحياة، أنتج الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد أعمالاً كثيرة ناجحة ومميزة، وصار صاحب طيور العنبر واحداً من أهم القامات الروائية العربية، وحصد أغلب الجوائز الأدبية على المستوى العربي، وطبعت رواياته طبعات عديدة، وحولت رواياته إلى أفلام ومسلسلات حصدت نجاحاً كبيراً، وشكلت باعترافه المتواضع الصادق إضافة جديدة إلى أدبه وشهرته، وكانت قامته المديدة القوية تسبقك بخطواتها في ميدان سليمان باشا إلى غروبي، وإلى مقهى ريش، وكانت نظرته التقديرية لمحفوظ وعكاشة تدل على فهمه العميق.
كانت قامته وكان تمرده في الكتابة والأدب، والشيء الوحيد هو خطوة الصديق الروائي الجميل إبراهيم عبد المجيد هي التي اختلفت.. بعد أن ذرف دمعات اللقاء جلس يستذكر دمشق ويتحدث في أروقة معرض الشارقة للكتاب حديثاً خاصاً لـ«الوطن»:
• بعد خمسة عشر عاماً من الغياب عن اللقاءات.. ماذا عن إبراهيم عبد المجيد اليوم؟
الحمد لله، أنا بحالة جيدة بعد العديد من المحن الصحية التي لا أحبذ ذكرها أو تذكرها، والمهم اليوم أنني أصبحت جيداً وعلى ما يرام وعاودت الكتابة، وهذا شيء مهم بالنسبة إلي، وأعيش بعزيمة الشباب على الرغم من الوهن والضعف الصحي، ولكنني لا أنقطع عن الكتابة والتأليف وأحاول في كل عام إنجاز عمل روائي أو ما شابه ذلك، إضافة إلى بعض المقالات الأسبوعية التي تنشر في الدوريات.
• ماذا عن دمشق؟
دمشق الزمن الجميل، دمشق وساحة المرجة وباب توما والصالحية، ودمشق الفن والجمال والأصدقاء وأيام مهرجان دمشق السينمائي في ليالي الجمال الساحرة، أتذكر آخر زيارة لها برفقة الأستاذ الراحل أسامة أنور عكاشة.. كم أشتاق لذلك الزمن وتلك البساطة، وذلك الحب، والمسير في أجوائها الشاعرية حتى ساعات الصباح الأولى.
• أين تجد نفسك أكثر؟ في المقالة أم في الرواية؟
أنا كما صرحت سابقاً أحبذ أن أتفرغ في النهار للمقالات وفي الليل للروايات، ففي النهار يخلصني المقال من كثير من العبء وهموم الحياة لأنني أقول من خلاله رأيي حول ما يحدث، أما الليل فيأخذني للفراغ وللملكوت مع الموسيقا الكلاسيكية، وأصنع عالمي الخاص الذي هو شخصيات الرواية، وأعيش وسط هذه الحالة من الانفصام منذ سنوات كثيرة، وإن كنت قد كتبت الرواية خلال أوقات النهار خلال فترات المرض، لأنني شعرت أن الزمن مسرع والعمر يندثر ويتلاشى، ولكنني أنجزت ما كنت أريده.
• طيور العنبر كانت قفزة نوعية لروائي مهم في ذلك الوقت، كيف يرى إبراهيم عبد المجيد المسافة الإبداعية بين طيور العنبر واليوم؟
في الحقيقة أنا لا أحب المسافات، ولكن لدي اعتبار مهم جداً وقلته مراراً كثيراً، المشكلة ليست في ماذا تكتب ولكن كيف تكتب، أنا أحب التجديد في الكتابة الأدبية وتعدد لغات الشخصيات وفقاً لإمكانيات الشخصيات، فالعاهرة ليست كالسوية والقاضي ليس كاللص في الفكر واللغة والحوار، والزمان كذلك مختلف، فالليل غير النهار، الأجواء في الليل وأنت جالس أمام البحر يستدعي الاسترخاء والتأمل لكن ركوبك لمركبة سريعة ستجعل نظراتك للأشياء سريعة بسرعته، وصعود المراحل ليس كالهبوط، أرأيت تعدد اللغات هذا وبناء الرواية؟، فأنا اعتمد التجديد في كل رواية وهذا ما يجعلني سعيداً، وطيور العنبر فيها شكل من أشكال التجديد لأن شخصياتها كثيرة ويشغلك طريقة الجمع بينهم وبين القارئ الذي يتلقى منك، وأحب كثيراً من يحب طيور العنبر، ففيها الكثير من الشخصيات من مختلف الجنسيات، من فرنسا واليونان وإيطاليا وإنكلترا وغيرهم، وفيما بعد أنجزت الجزء الثالث من ((الإسكندرية في غيمة)) فطيور العنبر كانت الجزء الثاني لثلاثية الإسكندرية، بعد «لا أحد ينام في الإسكندرية» فتقع أحداث الرواية في سبعينيات القرن العشرين حينما توارت الروح التي تميزت بها المدينة عبر التاريخ باعتبارها فضاء حاضنا للأعراق والأديان والثقافات، وحل محلّ كل ذلك ضروب من عدم التسامح، والكراهية، أدت إلى تخريب التقاليد الدنيوية للإسكندرية واشتغلت على التغير الذي أحدثه الإخوان مع السادات وكيف دمروا المدينة وحولوها لمدينة وهابية، وفي المحصلة رواياتي الأخيرة بمعظمها فيها شكل من أشكال الكتابة الجديدة.
• ما الذي اختلف من الناحية الفنية عندك في بناء الرواية؟هل تعتمد مدرسة واحدة؟
أنا لا أعتمد مدرسة معينة ومحددة وأحب التجديد بشكل دائم، ولكل رواية أعتمد تكنيكاً مختلفاً، يحدد ذلك مكان الرواية وزمانها وتنوع الشخصيات، فعلى سبيل المثال «الصياد واليمامة» المنجزة في الثمانينيات وضعت فيها الماضي بصورة المضارع مما يشكل ضغطاً كبيراً على بطل الرواية، على حين «بيت الياسمين» تنتمي للنوع الكوميدي خلال مرحلة تولي السادات، وفوق كل فصل وضعت قصة لرجل مؤلفة من عشرة أسطر بعيدة عن موضوع الفصل ولكن الاثنين معاً يشكلان أفقاً رحباً وموسعاً للمتلقي، وفي إحدى رواياتي لجأت إلى شخص غير مرئي يستدعي شخصيات من الأبنية القديمة وما إلى ذلك واعتمدت الفانتازيا العالية.
فأنا أجدد بشكل مستمر، وحتى الرواية القادمة ستتضمن ثلاث شخصيات تتكلم بلغات مختلفة، إحداها بالعامية والأخرى بالفصحى والأخير خليط بينهما، وكل واحدة حسب ثقافتها وعلومها، وأنا دائماً مغرم بطريقة الكتابة وليس بالكتابة نفسها، «لا أحد ينام في الإسكندرية» تتضمن أخباراً وموضوعات من العالم بأسره والكثير من التوثيق، وصنعتها بروح العصر، ففيها خبر عن تشرشل وبعده خبر عن هتلر وثم تدمير بيوت الدعارة وهكذا.
• أخبرنا عن دبلوم الصنايع
دبلوم الصنايع كان مفروضاً عليّ، وكنت ملزماً به، ففي 1961 عندما أنهيت الدراسة الإعدادية بمجموع 85 في المئة بمعدل مرتفع إلى حد ما، كان من المفروض أن يصل والدي إلى سن التقاعد، وفي الوقت ذاته كان التعليم مجانياً والمصاريف قليلة ولكن الدخول إلى الجامعة يحتاج إلى مبلغ 18 جنيهاَ وكان مبلغاً كبيراً وقتها، وأنا اخترت دبلوم الصنايع لكي أعفيه من تكاليف لا يقدر عليها، وبعد الثانوي دخلت قسم الفلسفة الذي أحبه لكي أفهم ما وراء العالم، وخططت لأكون مثل نجيب محفوظ لأنني كنت أحبه كثيراً، وانتقلت للعيش في القاهرة فيما بعد.
• قدمت محاضرة عن الحرية والإبداع ماذا يعني هاجس الحرية لإبراهيم عبد المجيد؟
أنا أتكلم عن الحرية في الكتابة الأدبية، وأنا أجد أن الحرية هي في صوغ الفكرة وتحويلها لموقف، ولكن لوقلت رأياً مباشراً في رواية سيكون مقالاً.
• أنت دائم الانتقاد للسلطة السياسية.. ما الذي يعجبك؟
عبد الناصر أنجز صناعات اجتماعية وطبية وعلمية عظيمة جداً ولكن أسس حكم الفرد، في حين نحن كنا نسير في حكم الليبرالية منذ ثورة 1919 وأحزاب، وعند انقلاب 1952 لم يكن للملك فاروق أي صلاحيات، وعندما جاء السادات مسح جميع ما فعله عبد الناصر وفتح أبواب البيع بحجة الانفتاح والمشروع الحر، ونسف جميع ما أنجزه عبد الناصر من قبل، وبعد موت السادات جاء حسني مبارك وأعاد الكرة ذاتها إلا أنه أفسح المجال للثقافة قليلاً، ولكنه اعتمد مبدأ الزعيم الأوحد أيضاً، وحتى الآن هذا المبدأ معمم، وأنا معهم جميعاً ولست ضدهم بالمطلق ولكن ضد هذا المبدأ الذي يدمر كل شيء.
• أنت ابن البحر.. ماذا استمددت من أمواجه وجنونه؟
سئلت ذات مرة ما الفرق بين وقوفك على البحر الأطلسي وبحر الإسكندرية، فأجبتهم أن هناك أمامي الكثير من الغموض ولا أعرف شيئاً، ولكن في الإسكندرية تحتي كليوبترا وأنطونيوس وجميع الناس وعليه بات لدي ثقة في نفسي.
• ما سر الإسكندرية؟
الاسكندرية مدينة عظيمة ومعاكسة للحكام ولم تكن يوماً مع حاكم وقد أهملت في الآونة الأخيرة منذ أيام السادات، فخلال الحكم الروماني كانت الملجأ للمسيحيين، وأنشأ فيها كاتدرائيات سرية، ومنها انتشرت المسيحية للعالم كله، وعند دخول المسلمين السنة، كانت الإسكندرية مدينة المتصوفين، فجميع المتصوفين القادمين من الأندلس كان لا بد لهم من المرور بالإسكندرية، وفي عهد الفاطميين معظم مصر دخلت في نطاق الشيعة وبقيت الإسكندرية ضمن عباءة السنة، وقيل إن أهل الإسكندرية ليس لديهم عمل إلا مصارعة الديكة، وشرب النبيذ والتندر على الحكام، وعندما كانت مصر تضم حوالي عشرة ملايين فرد كان في الاسكندرية فقط 500 ألف، وقد جسدت تلك العظمة في العديد من رواياتي وأعمالي.
• بماذا تدين للإسكندرية؟
أدين لها بالثقة بنفسي، ولحسن حظي فالمدينة التي سكنتها كانت واسعة وتعدادها السكاني كبير وفيها الأجواء العالمية والتنوع الثقافي والسياح والطرقات المميزة وأفرع أفخم وأشهر الماركات العالمية من العطور والألبسة والمأكولات، وعدد كبير من صالات العرض السينمائي.
• من أهم الشخصيات الإسكندرية العالقة في ذهنك؟
أسماء كثيرة ولا مجال لحصرها وأذكر منها، محمد جبريل ومصطفى نصر وأحمد فضل شملول في الرواية والشعر والتأليف للفتيان، وأسامة أنور عكاشة الذي كتب عن الإسكندرية الكثير، ودعاء إبراهيم.
• هل تمتلك الرواية والأدب المكانة والأهمية التي تجعلها مؤثرة وذات أهمية اليوم؟
الحكومات هي من تتجاهل هذا الجانب، ولكن هذا لا ينفي وجود قراء وأدب يصنع إنساناً سوياً، وإن لم يستطع تغيير العالم ولكنه على الصعيد الفردي يخلق منه إنساناً متوازناً.
• هل حقق إبراهيم عبد المجيد طموحاته؟
أنا أجد متعتي في الكتابة ولطالما أنني اكتب فأنا سعيد والبقية تأتي بعد، وقد نلت الكثير من الجوائز وحققت مكاسب مادية لا بأس بها وسافرت إلى بلدان كثيرة واختلطت بثقافات عديدة، ولكن الأهم من أي شيء هو متعة الكتابة.
• عتبات البهجة مسلسل درامي استوحي من أحد أعمالك الروائية، ما الذي يعنيه لك أن يتم تبني عمل روائي لك وتحويله إلى عمل درامي؟
يعنيني الكثير طبعاً، فالجمهور المستهدف غدا أوسع ومختلف عن قبل، بالإضافة للمكسب المادي، ويسهم أيضاً في إقبال القراء على اقتناء أعمالي الروائية.
• ما أحلامك وبماذا تفكر للغد؟
في الحقيقة لا أطلب سوى دوام الصحة والعافية والشفاء العاجل لزوجتي وأن يحفظ الله عائلتي جميعاً.
• هل وصلت إلى الزهد؟
أنا دائماً كنت وما زلت زاهداً، فعلى سبيل المثال عندما كنت أحصل على مبلغ قليل جداً لا أخرج من البيت لمدة طويلة وأتفرغ للكتابة وأكتفي به لسد نفقاتي، وأنا لم أدخل في أي صراعات ومناوشات أدبية ولا غيرها مع أحد.
• ما أحب الألقاب لك؟
إبراهيم عبد المجيد الكاتب والروائي.
سيرياهوم نيوز 2_الوطن