علي الأحمد:
من الصعب جداً، أن تكتب عن صباح فخري، هذه القامة الإبداعية الكبيرة، وتحاول أن تقرأ في هذه التجربة الغنائية الباذخة الجمال، التي امتدت إلى أكثر من النصف قرن، وأثّرت على أجيال وأصوات عربية تتلمذت روحياً ووجدانياً، في هذه المدرسة الغنائية الخالدة التي قدمت الكثير لهذا الفن الغنائي الأصيل ولا تزال.
فكيف السبيل، إذاً، لدخول عالم هذا الفنان الكبير، الذي أغنى ذائقتنا ووعينا الجمالي، بصوته الماسي المعجز وبحضوره الجميل، وعمق وسعة مكانته في تاريخ الغناء العربي المعاصر،. نعم كُتب الكثير عن هذا الفنان الكبير، وكلما ظننا أننا بتنا نعرف الكثير عن هذه التجربة، يفاجئنا من جديد، بملامح إبداعية عبر أعمال لم تكتشف من قبل، فمن الصعب أن توثق كل أعماله وأمسياته الجميلة التي لا تعد ولاتحصى، شأنه شأن الكثير من المبدعين العرب، الذين ذهبت بعض أعمالهم المهمة في غياهب النسيان، نتيجة الإهمال، أو عدم توافر أدوات التوثيق أو التسجيل وغيرها من الأمور، المهم في الأمر، أننا ولحسن الحظ، نمتلك الكثير من تراث هذا الفنان الأصيل، الذي لم يبخل علينا يوماً ما، بصوته النبيل الكريم، صوته الذي يحار المرء ما هي مرجعيته، أتكون مستقاة من عبق مآذن حلب تلك المدينة القصد والسبيل، أم من تلك الثقافات التي مرت واستوطنت هذه المدينة الخالدة، المتنبي، وأبو فراس الحمداني، والمعلم الثاني الفارابي، وحادثته الشهيرة في مجلس سيف الدولة الحمداني، وأسماء مبدعة حفرت وتركت بصمتها المضيئة في ذائقة هذه المدينة التي لاتهادن أبداً، هذه المرجعيات جميعها استلهمها هذا الفنان الكبير، وكانت له ذخراً إبداعياً لا ينضب، هذا إضافة إلى أعلام هذه المدينة من مبدعين كبار في الشعر والموسيقا والغناء وهم أكثر من أن يعدوا أو يحصوا، الوشاح الكبير “عمر البطش” والشيخ القدير “علي الدرويش” والملحن “بكري الكردي” والباحث “مجدي العقيلي” وغيرهم ممن غنى من أشعارهم وألحانهم عبر أمسياته وحفلاته التي ارتحل فيها إلى مطارح غير مسبوقة من التجلي والطرب التعبيري الذي امتلك أسراره، بمقدرته وحرفيته العالية في الأداء المبهر وثقافته الموسيقية المعرفية الموسوعية التي منحته المكان والمكانة التي يستحق في عالم الغناء العربي المعاصر، وهي مكانة لم يستحقها، لولا الصعوبات والعوائق التي مر بها على المستوى الحياتي والإبداعي، وتجاوزها، بكل إصرار وإرادة في أن يكون له مكانة، ومكانة كبيرة، في تاريخ الإبداع، وكان له ما أراد بعد كل هذا الجهد والصبر والمثابرة، وروح التحدي التي امتلكها منذ صغره. كان يدرك تماماً، أن عليه أن يتعب ويكافح كثيراً، في سبيل الوصول الى تحقيق حلمه، ساعدته الظروف في بعض الأحيان، لكن ذلك لم يكن كافياً، فعمد إلى الاساتذة الكبار في عصره، لينهل العلم والمعرفة الموسيقية ويتتلمذ مبكراً، على أصول وتقنيات الغناء العربي الكلاسيكي، أي ما كان يطلق عليه قديماً في العصر العباسي تحديداً “بالغناء المتقن” وهو ما ساعده في نطق مخارج الحروف بشكل راقٍ وفخم بكل ما تحمل الكلمة من معنى ودلالات، في تأثير مهم للزوايا والتكايا الصوفية التي عاش فيها طفولته وأثرت عميقاً في نفسيته وتوجهاته الفنية ، ومدرسة تجويد القرآن التي منحته فيما بعد، المقدرة والحرفية العالية في الأداء التعبيري الدرامي وهو واحد من قلة من مطربين عرب امتلكوا ناصية هذا الأداء المعجز بحق.
صباح فخري، فخر الغناء العربي، الذي لم يستكن أبداً، لنجاحه وشهرته، فنال أرفع الجوائز والأوسمة من بلدان عديدة، تقديراً لمنجزه الإبداعي غير المسبوق، وتحديداً في حفاظه على تراث موسيقاه العربية وإحياء الكثير المهمل منه، برؤية معاصرة، من موشحات، وقصائد ومواويل وقدود وأدوار وغيرها، وهذا يعود بالدرجة الأولى، إلى إيمانه الكبير بهويته الثقافية العربية الأصيلة ، وبالرسالة الحضارية والإنسانية التي حملها على عاتقه، في أن يكون الفن الذي يقدمه، رسالة محبة وتلاق، وارتحال دائم نحو الآخر المغاير، انطلاقاً من ميراثه الروحي العظيم، وخزينته الإبداعية التي صنع مجدها و “اسطورته” الخالدة وسكن فيها إلى الأبد .
سيرياهوم نيوز 5 – الثورة 15/9/2020