يوسف فارس
وضعت بيت حانون الواقعة في شمال قطاع غزة، توقيعها مجدّداً في الدقيقة التسعين من الحرب، إذ استطاع مقاومو المدينة الحدودية التي بدأت الحرب منها، وتعرّضت خلال 20 شهراً لأكثر من عشر عمليات برّية إسرائيلية امتدّ بعضها أشهراً، وأعلن جيش العدو مراراً القضاء على كتيبتها، بل واغتيال قائد «كتائب القسام» فيها، حسين فياض، ليل الإثنين – الثلاثاء، تنفيذ أحد أكثر الكمائن دموية على الإطلاق، والذي وصفته صفحات المستوطنين التي تنشر المعلومات بعيداً عن الرقابة، بـ»الكارثة الكبرى».
وتحدّثت الأخبار الأولية عن احتراق عدد من الجنود داخل آلياتهم وتقطّع أوصال جنود آخرين، وعن صعوبة بالغة في انتشال القتلى والمصابين. وعلى وقع الكمين القاتل الذي استمر لساعة ونصف ساعة، دخلت مستشفيات «أسوتا» و»سوروكا» و»بلينسون» و»تل هشومير» في حالة طوارئ. كما أجرت الطائرات المروحية عدة عمليات إخلاء تحت غطاء ناري مكثّف من الطيران الحربي والقصف المدفعي الذي لم يتوقّف.
ووفقاً للمعلومات التي نشرها جيش الاحتلال، فإن قوة راجلة من كتيبة «نتساح يهودا» وقعت في حقل من العبوات الناسفة، التي تمكّن المقاومون من زرعها على طريق رئيسي يقع ضمن المنطقة العازلة التي تبعد عن السياج الفاصل مسافة 500 متر، علماً أن تلك المنطقة لم ينسحب منها الجيش منذ بداية الحرب، وبقيت حتى في خلال هدنة 19 كانون الثاني الماضي، منطقة عسكرية مُخلاة. ووفقاً لبيان جيش العدو، فجّر المقاومون عبوة ناسفة كبيرة بالقوة الراجلة، وعندما وصلت قوة الإنقاذ لانتشال المصابين والقتلى، حُوصرت بالنيران من كل الاتجاهات.
ولفت البيان إلى أن الكمين وقع في إطار عملية عسكرية مشتركة بين لواءين كانت تهدف إلى تطهير المدينة من الجيوب المسلّحة المتبقية فيها. وبعدما عبرت قوة «نتساح يهودا» في تمام الساعة العاشرة مساء طريقاً كانت قصفته الطائرات عدّة مرات للتأكد من خلوّه من العبوات الناسفة، وقعت سريعاً في حلقة نار محكمة، حيث فجّر المقاومون أربع عبوات تباعاً، ما تسبّب بمقتل وإصابة نحو 25 جندياً. وأقرّ جيش العدو لاحقاً بمقتل خمسة جنود وإصابة 16 جندياً، جروح اثنين منهم بالغة الخطورة.
الخصوصية التي يحملها تنفيذ كمين كهذا، لا تتّصل فقط بتجاوز التعقيدات الميدانية القائمة، لجهة انكشاف المنطقة القريبة جداً من السياج الفاصل، والخاضعة طوال الوقت لرقابة ثلاثة أنظمة هي الطائرات المُسيّرة وطائرات «الكوادكابتر» ومناطيد التجسّس، فضلاً عن المتابعة البرية من الأبراج العسكرية المحاذية لها، إنما في ما يبديه المقاومون من تشرّب احترافي لطريقة تفكير جيش الاحتلال، وصل إلى حدّ توقّع الطرق التي سيسلكها.
ويعكس أسلوب «حفرة النار» تماهياً وتكيّفاً مذهلاً مع مسرح العمليات الذي يتحوّل فور وقوع حدث أمني إلى كتلة ملتهبة من النار، إذ يستدعي الجيش الوسائط الحربية كافة في غضون لحظات، ويوجّهها لحماية الجنود المصابين لإجهاض أي عملية اختطاف. غير أن المقاومين استطاعوا مواصلة الكمين المركّب لنحو ساعة ونصف ساعة عقب التفجير الابتدائي، وأطلقوا النار من الأسلحة الرشاشة في اتجاه الجنود المصابين، وعطّلوا عملية الإنقاذ، بل جعلوا من قوتي الإنقاذ اللتين حضرتا إلى المكان، هدفاً لنيرانهم.
أعضاء كنيست يطالبون الوزراء بدعم رئيس الأركان في إنهاء الحرب
وكانت كتيبة «بيت حانون» وضعت توقيعها أيضاً في الأسبوع الأخير الذي سبق إبرام صفقة كانون الثاني الماضي، إذ نفّذت «كتائب القسام» حينها نحو 13 كميناً وعملية استهداف لآليات الاحتلال في غضون عشرة أيام، أقرّ العدو على إثرها بمقتل 15 جندياً وإصابة العشرات. وسدّد قائد الكتيبة، حسين فياض، ضربة معنوية قاسية للاحتلال، حينما خرج في اليوم الأول لوقف إطلاق النار متجوّلاً في المدينة ومتفقّداً عدداً من المواقع التي نفّذت فيها الكتائب عملياتها وكمائنها، مفنّداً رواية العدو الذي أكّد اغتياله ثلاث مرات في خلال الحرب.
وفي الحديث عن التوقيت، تزامن الكمين الكبير مع انطلاق جولة المفاوضات في الدوحة، ومع زيارة تحمل طابعاً انتصارياً لرئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، إلى الولايات المتحدة، ومع خلاف يأخذ طابعاً أكثر حدّة بين المؤسستين الأمنية والسياسية، حيث تؤيّد الأولى وقف إطلاق النار، فيما تدفع الثانية إلى احتلال القطاع والتورّط في التعامل مع مليونَي غزاوي بعد نقل أكثرهم إلى مخيمات في مدينة رفح.
وفي الإعلام العبري، أحدث الكمين عاصفة من الجدل؛ ففيما طالب وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، بإعادة وفد التفاوض إلى إسرائيل ومواصلة الحرب إلى النهاية حتى سحق حركة «حماس» وتجويع الغزيين حتى الموت، دعا زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، إلى «إنهاء الحرب من أجل الجنود وعائلاتهم ومن أجل المختطفين ودولة إسرائيل».
وتوسّع الجدل بين أعضاء «الكابينت» و»الكنيست»، حيث قال الوزير زئيف إلكين إن «الجنود يُقتلون لكي لا يُقتل مواطنونا في 7 أكتوبر جديد»، لترد عليه عضو «الكنيست»، ميراف بن أري، بالقول إن «الجنود يُقتلون في نفس الساحة التي تم احتلالها عدة مرّات، وبدلاً من أن يقف الوزراء ويدعموا رئيس الأركان وينهوا الحرب، يواصلون زرع الذعر والهلع من 7 أكتوبر جديد».
وفي السياق نفسه، رأى عضو «الكنيست»، رام بن براك، أن «كل يوم إضافي في غزة يؤدّي إلى تآكل الإنجاز. وفي النهاية سوف تُمسح الإنجازات بالكامل». كذلك، اعتبرت زعيمة حزب «ميرتس» سابقاً، زهافا غالؤون، أنه يجب «إنهاء الحرب والخروج من غزة وتحرير جميع الأسرى ووقف سفك الدماء»، وهو ما طالب به أيضاً عضو «الكنيست»، ميراف ميخائيلي.
وأفردت صحيفة «يديعوت أحرونوت» مساحة واسعة لتحليل الكيفية التي يعمل بها مقاتلو المقاومة. وقالت في تقرير مطوّل إن «على الجيش أن يفكّر في كيفية التعامل مع حرب العصابات في غزة التي تكلّف ثمناً باهظاً، حيث يدرك الجيش أن حماس استوعبت أساليبه، وحرب العصابات تكبّده خسائر كبيرة وتفرض عليه مراجعة الاستراتيجية. من الضروري تحديد خط نهاية للحرب والانتقال إلى خطة دفاعية في غزة».
وإزاء تلك العاصفة، أكّد الناطق باسم «كتائب القسام»، أبو عبيدة، أن عملية بيت حانون هي «ضربة إضافية سدّدها مجاهدونا الأشداء لهيبة جيش الاحتلال الهزيل ووحداته الأكثر إجراماً في ميدان ظنّه الاحتلال آمناً بعد أن لم يُبْقِ فيه حجراً على حجر (…) إن معركة الاستنزاف التي يخوضها مجاهدونا مع العدو من شمال القطاع إلى جنوبه ستكبّده كل يوم خسائر إضافية»، مشيراً إلى أن «العدو نجح أخيراً في تخليص جنوده من الجحيم بأعجوبة وربما يفشل لاحقاً في ذلك ليصبح (بحوزتنا) أسرى إضافيون». كما أكّد أن «أغبى قرار يمكن أن يتخذه نتنياهو هو أن يبقي قواته داخل القطاع».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار