د. صبحي غندور
مرّت مائة سنة على نشوء معظم الأوطان العربية بصيغتها الراهنة وذلك بعد انهيار الأمبراطورية العثمانية، ووفق اتفاقية “سايس- بيكو” بين الأمبراطوريتن الأنجليزية والفرنسية. وترافق ذلك أيضاً مع سعي أوروبي/صهيوني إلى إنشاء دولة إسرائيل في قلب المنطقة العربية. فوعد بلفور تزامن مع اتفاقية “سايس- بيكو” ومع بدء إقامة حكومات في الأوطان الجديدة تتبع للهيمنة البريطانية والفرنسية على المنطقة.
وهذه “الثلاثية”: الغرب الأوروبي والدور الصهويني والحكومات التابعة للغرب، هي المسؤولة عمّا حدث في النصف الأول من القرن العشرين، ومن ضمنه وجود إسرائيل التي باشرت منذ مطلع الخمسينات بالتخطيط لتقسيم المقسّم من الأوطان العربية.
وكان من الطبيعي أن تنشط في الخمسينات والستّينات من القرن الماضي فكرة الدعوة للتحرر الوطني وللوحدة العربية لما كان عليه دور مصر عبد الناصر من إشعال تيّار القومية العربية في مواجهة “الثلاثية” المشار إليها سابقاَ، وهذا ما وجدناه يحدث في ثورة الجزائر ضدّ الفرنسيين وثورة عدن ضدّ البريطانيين، ومن الدعوة لسيطرة العرب على ثرواتهم الوطنية كما حدث في تأميم قناة السويس وشركات النفط العاملة في المنطقة العربية.
لكن إنصافاً للحقيقة، فإنّ معارك التحرّر الوطني في القرن العشرين لم تصل نتائجها في البلدان التي نجحت في مواجهة المستعمر الأوروبي، إلى بناء مجتمعات حرّة يتحقّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية السليمة في الحكم وفي صنع القرار. وبسبب ذلك، كان سهلاً حدوث التدخل الإقليمي والدولي في القضايا الداخلية العربية وعودة مشاريع الهيمنة الأجنبية من جديد. فربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدان عربية أنّ شعوبها نجحت في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.
وما يحدث الآن في داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
ولعلَّ أهم دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم “الحرّية” حيث أنّ الحرّية هي (حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً) ولا يجوز القبول بإحداها بديلاً عن الأخرى. كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية، فلا فصل بين تأمين “لقمة العيش” وبين حرّية “تذكرة الانتخابات”.
لكن هل ما يحدث الآن على الأرض العربية هو فقط متغيّرات سياسية محلية تتدخّل فيها، وتتجاوب مع تفاعلاتها، قوى إقليمية ودولية؟ أم أنّ هذه المتغيّرات هي قطعة فقط من صورة مرسومة مسبقاً لتغييرٍ جغرافي وديمغرافي منشود لدول عربية عديدة؟ ألم تكن الحرب على العراق في العام 2003، وما أفرزته من نتائج سيئة على وحدة الدولة والشعب، وما مثّلته هذه الحرب من تداخل بين الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، كافية لتكون درساً مهمّاً للعرب من أجل تحسين نظم الحياة الداخلية في مجتمعاتهم وتحصينها ضدّ التدخّل الخارجي؟! ثمّ ألم يكن درس تقسيم السودان في مطلع العام 2011 مؤشّراً عن المصير المرغوب لأوطان عربية أخرى؟!
يصرّ الآن بعض “الثوار الجدد” على الحديث فقط عن المسألة الديمقراطية، رغم أهميتها وأولويتها، بمعزلٍ كامل عن قضايا أخرى هامّة أيضاً تتّصل بحاضر الأمَّة العربية وتاريخها المعاصر، كقضية التحرّر الوطني من الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية، أو قضية الصراع العربي/الصهيوني التي هي فاعلة في كلّ ما تشهده الآن المنطقة من تطّورات سياسية وأمنية، أو حتّى في قضية هويّة الأوطان العربية التي تطمسها الآن هُويات فئوية ضيقة تُمهّد لمرحلة الدويلات الطائفية والإثنية.
نجد أيضاً في ملاحظة ما يحدث على الأرض العربية الآن أنّ الشعوب عموماً تعاني حالاتٍ سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو إثنية بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمع حيوي موحّد. وهذا الانقسام الطائفي والإثني يتمّ التشجيع عليه محلياً وإقليمياً ودولياً، ويسبح في أوحاله إعلاميون وسياسيون وعلماء دين ومفكرون، ولأغراض ومنافع مختلفة.
وربما ما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ لحروب المائة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف المصري/الأردني/ الفلسطيني بها، بعد معاهدات “كامب ديفيد” و”أوسلو” و”وادي عربة”، ثمّ “تطبيع” بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها غير كافية لتثبيت “شرعية” الوجود الإسرائيلي في فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية، ما لم تقم دويلات أخرى في محيط “إسرائيل” على أسس دينية.
فكم هو جهلٌ مطبق الآن استبعاد الدور الإسرائيلي في تفاعلات داخلية تحدث في عدّة أوطان عربية. وكم هو تشويه للحقائق حينما لا ينتبه العرب إلى المصلحة الإسرائيلية الكبرى في تفتيت أوطانهم وفي صراعاتهم العنفية تحت أيِّ شعارٍ كان. فأمن إسرائيل يتحقّق (كما قال أحد الوزراء الإسرائيليين بعد حرب 1967) “حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي”.
وللأسف، فإنّ ما قامت به “الجمهورية الثانية” في مصر (حقبتا أنور السادات وحسني مبارك)، يتمّ استمراره الآن، ولو بغير رغبة، من اقتلاع مصر من دورها الريادي العربي والإفريقي والإسلامي، حينما جرى توقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية. فقد كان آنذاك، وما يزال، مصدر الخلل الكبير الذي تعيشه الأمَّة العربية منذ أربعة عقود. وتصحيح هذا الخلل هو الأساس لأي تغيير عربي إيجابي منشود في عموم المنطقة. ما عدا ذلك، يكون أشبه بمنشّطات تزيد إلى حدٍّ ما من قدرة الجسم العربي العليل على مقاومة ما فيه من أمراض، لكنها لا تشفيه من أخطرها، وهو ما حدث في قلبه المصري.
هذه الفتن الداخلية العربية الجارية في أكثر من زمان ومكان، هي حلقة متصلة بسلسلة الصراع العربي/الصهيوني على مدار مائة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفيذ “وعد بلفور” بإنشاء دولة إسرائيل دون تقطيع للجسم العربي وللأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني/الصهيوني مع الاتفاق البريطاني/الفرنسي المعروف باسم “سايكس- بيكو” والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي وبين الصراع العربي/الصهيوني. ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتحاد أو تكامل عربي، وبين الصراع العربي/الصهيوني.
أمّا على صعيد الدور الخارجي في الأزمات العربية، فهو أيضاً عنصرٌ فاعل في إحداثها، أو في توظيفها واستثمارها. وهذا الدور الخارجي يجمع، على امتداد قرنٍ من الزمن، بين إسرائيل ودول كبرى، من جهة، ودول إقليمية كبرى كتركيا وإيران في فترة ما بعد انهيار التضامن العربي وتوقيع المعاهدات مع إسرائيل.
نعم، إيران وتركيا وإسرائيل كقوى إقليمية كبرى استفادت كثيرا وتستفيد الآن من غياب دور مصر وتكبيلها باتفاقيات كمب ديفيد ومن غزو صدام حسين لدولة الكويت ومن موافقة منظمة التحرير على اتفاقية أوسلو، فهذه الأمور هي التي أوصلت المنطقة العربية الى حال الانهيار الراهن قبل أي شيء آخر. وهل كان ممكنًا لإيران أن يكون لها هذا النفوذ في العراق لولا الغزو الأميركي- البريطاني؟ أو في لبنان لو ما حدث من احتلالٍ إسرائيلي لأراضٍ لبنانية استمرّ لأكثر من عشرين سنة ولم ينتهِ إلّا بفعل المقاومة المدعومة من إيران، رغم وجود القرار الدولي رقم 425 والذي طالب إسرائيل بالانسحاب منذ العام 1978؟!
إيران ليس لها أي نفوذ في ليبيا، فكيف نفسّر ما يحدث هناك منذ 10 سنوات من حربٍ أهلية ودمار للوطن الليبي؟ وايران لم يكن لها أي نفوذ في جنوب السودان، فمن المسؤول عن تقسيم السودان في العام 2011؟ ولم تكن هناك ثورة إيرانية حينما احتلّت إسرائيل جنوب لبنان في العام 1978، بل إسرائيل هي التي قامت بإنشاء دولة سعد حداد أنذاك (دولة لبنان الحر) كأول محاولة إسرائيلية لتقسيم لبنان.
وفي العام 1968 قامت اسرائيل بتدمير كل الطائرات المدنية اللبنانية في مطار بيروت ولم يكن في لبنان أي نفوذ خارجي مسلّح أو أي عمل فلسطيني مسلّح، فقط من أجل تدمير الاقتصاد اللبناني وما كان يعنيه لبنان لعموم العالم آنذاك. ولو لم يكن في لبنان مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين الذين أخرجتهم إسرائيل من وطنهم وأرضهم، هل كان للحرب في لبنان عام 1975 أن تقع تحت شعار “إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح”؟!.
إسرائيل تواصلت مع جماعات من الأكراد في العراق لسنواتٍ طويلة قبل سقوط النظام البعثي وبعده، وكانت تعمل مع هذه الجماعات لتقسيم العراق وإعلان دولة كردستان! وفعلت إسرائيل الأمر نفسه مع قوى مسلّحة في جنوب السوادن قبل قرار فصله عن وطنه الأم، وإسرائيل هي التي دعمت في السنوات الماضية بعض جماعات المعارضة في سوريا من أجل الوصول إلى تقسيم سوريا أيضاً.
ثمّ أليست فرنسا وبريطانيا هما من أوجد أنظمة وحكومات على أسس طائفية وقبلية وعائلية في الأوطان التي سيطروا عليها بعد الحرب العالمية الأولى، وكيف سيكون هناك استقرارٌ وتوحّد في أوطان جرى صياغتها أصلاً على أسس خاطئة ؟!.
طبعاً ستحاول كلٌّ من إيران وتركيا ملء الفراغ الذي حصل بغياب دور مصر، ومن تفجّر العديد من الصراعات الأهلية نتيجة التنافس الدولي على المنطقة والدور الإسرائيلي الخطير في هذه الصراعات، لكن المسؤول الأول عن واقع الحال هو مزيج الآن لما هو مستمر لمائة سنة من تدخّل خارجي ومن عطب داخلي في معظم بلدان المنطقة!.
سيرياهوم نيوز 6 – الرأي اليوم