باسل الخطيب
خذوا علماً الصراع في أوكرانيا ليس صراعاً على أراضي هنا أو مدن هناك، الصراع هو صراع ثقافات ، و هكذا يتخطى صراع الإيدولوجيات، لانه في صراع الثقافات لا يوجد حلول وسط….. قد يكون التاريخ المعلم الأكبر عند قراءة الأحداث، و قد يستطيع الباحث أو المتابع من خلال مقارنة أحداث سابقة ما بأحداث حالية، الوقوف على أسباب هذه الأحداث، أو حتى استقراء النتائج منها أحياناً، خاصة إذا كانت الأطراف الفاعلة هي نفسها….. عدا عن ذلك، لدي قناعة أن العقليات التي تصنع الأحداث لا تتغير بتغير الأيام، و أن تلك العقليات لها علاقة بالجينات، و الجينات لا تتغير إنما يتم توارثها…. شهدت نهايات القرن الثامن عشر و بدايات القرن التاسع عشر حدثان، قد يكونا من أكبر الأحداث التي غيرت أو صنعت مسار التاريخ لاحقاً، الحدث الأول هو انتصار الثورة الأمريكية عام 1779 على المستعمرين الانكليز، تلك الثورة كانت صراعاً انغلو ساكسونياً داخلياً، و أعلنت انتصار الفرع على الأصل، و ولادة دولة انغلوساكسونية جديدة واعدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، و هذا أمر سعت كثيراً الإمبراطورية البريطانية لكي لا يحصل، المفارقة أن من ساعد الأمريكيين في ذاك الصراع كان الفرنسيون، الأعداء التقليديون للأنغلوساكسون….. جاء انتقام بريطانيا الرهيب في معركة واترلو 1815 التي انتصرت فيها الجيوش البريطانية و البروسية على جيوش نابليون، و كرس ذاك الانتصار بريطانيا الدولة العظمى الاولى على مستوى العالم لمدة قرن كامل…. عندما وقعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، كان يجب أو حكماً أن تقع، و دعك من السبب المعلن لوقوعها ألا و هو اغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية _ التجربة…. يمكن القول أن لفترة التي عاشتها أوربا منذ عام 1848 حتى عام 1914 هي أطول فترة سلام عاشتها في تاريخها، سنوات الاستقرار تلك أدت إلى حالة من الكساد، فكانت الحرب حكماً و واقعاً…… وضعت نتائج الحرب العالمية الأولى بذور الحرب العالمية الثانية. في فترة الكساد الاعظم في الولايات المتحدة ما بين عامي 1929_1933، صدر قرار من الخزينة البريطانية، و قد يكون هذا القرار أكثر القرارات الاقتصادية التي لوت عنق الأحداث تاريخياً، صدر قرار بإقفال كل أسواق الإمبراطورية البريطانية أمام البضائع الأمريكية، و كانت تلك الأسواق تشكل 25% من السوق العالمية، كان هذا القرار بمثابة الإعدام للولايات المتحدة الأمريكية، فكان ٱن اتخذ قرار على مستوى الدولة العميقة في الولايات المتحدة بإنهاء الإمبراطورية البريطانية لكونها المنافس الأنغلوساكسوني الأساسي للأنغلوساكسونية الأمريكية….. كان لا بد من اصطناع عدو في البر الأوروبي قادر على تدمير بريطانيا، اتجهت الولايات المتحدة إلى دعم صعود الحزب النازي في ألمانيا و استلام هتلر للحكم في ألمانيا عام 1933، كان ذاك الدعم في جانب معه تغاضياً عن كل الممارسات التي حصلت في ألمانيا في الفترة الممتدة عام 1933 إلى عام 1938، شاركت الولايات المتحدة في أولمبياد برلين عام 1936 و كان لمشاركتها الدور الأساسي في البروباغاندا الإعلامية النازية المروجة لهتلر و سياساته، رغم أن الولايات المتحدة كانت تعرف حق المعرفة كل الانتهاكات التي يقترفها الحزب النازي في ألمانبا، و التي تناقص مبادئ ويلسون ال 14 التي على أساسها دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى…. عدا عن ذلك، تغاضت الولايات المتحدة عن اجتياح هتلر للنمسا و تشيكوسلوفاكيا عام 1938 و ضمها. و لم تدخل الحرب العالمية الثانية إلا عام 1941 و بعد أن تم إنهاك الإمبراطورية البريطانية إلى الحدود القصوى….. خلال هذه السنوات استثمرت المؤسسات الصناعية الأمريكية في الصناعات الألمانية، و كان ذلك منفذاً للاقتصاد الأمريكي من جهة، و دافعاً قوياً لموجة التصنيع الألمانية الجبارة خلال ثلاثينات القرن الماضي و خاصة في المجال العسكري….. لم يكتف الامريكان بذلك، بل استثمروا في الصناعات السوفيتية لمصالح خاصة بهم من ناحية، و لأغراض جيوسياسية من ناحية أخرى، فقد كانوا يرون أن الخلاف و الاختلاف الأيديولوجي الحاد ما بين النازية و الشيوعية يمكن تحويله لاحقاً إلى حرب طاحنة تنهك الطرفين…. في المقابل و هنا تكمن المفارقة، دعمت الأنجلوساكسونية البريطانية صعود الحزب النازي في ألمانيا، و كانت غايتها من ذلك أن يقف الألمان في مواجهة الاتحاد السوفييتيي… نعم، دعم الأنغلوساكسون بشقيهما البريطاني و الأمريكي صعود النازية في ألمانيا و تسليحها، لأسباب بعضها تطابق فيما بينهما و بعضها اختلف….. قدم الامريكان و البريطانيون دعماً تسليحياً و بالذخيرة للاتحاد السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية، و ذلك عبر قوافل من السفن التي كانت تمخر عباب بحر الشمال و المحيط المتجمد الشمالي، و كانت دائماً تحاول اعتراضها الغواصات الألمانية، و لكن هذا الدعم لم يكن حباً بالاتحاد السوفييتي، إنما كانت الغاية إطالة الحرب أقصى ما يمكن في سبيل إنهاك كلا الطرفين… انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على النازية، و لكن من هزم النازية حقاً هو الاتحاد السوفييتي، هل تعرفون أن 70% من المجهود الحربي الألماني كان مركزاً على الجبهة الشرقية، في معركة كورسك وحدها و التي تعتبر أكبر معركة في التاريخ اشترك ثلاث ملايين جندي من الطرفين. قد تكون من الأسئلة الكبرى للحرب العالمية الثانية سؤالان أساسيان: لماذا لم يكمل هتلر اجتياح بريطانيا؟ و السؤال الثاني لماذا اجتاح هتلر الاتحاد السوفييتي؟…. يُقال أن التاريخ عندما يكرر نفسه فهو يكررها بطريقةكوميدية أو مأساوية، في ما يحصل حالياً في أوكرانيا التاريخ يكرر نفسه بطريقة كوميدية و مأساوية معاً…. فرغم سقوط الاتحاد السوفييتي، مازالت العقيدة الأنجلوساكسونية بشقيها البريطاني و الأمريكي تعتبر روسيا العدو الأول، و تهديداً وجودياً، لذلك سعوا دائماً إلى استمالة أوكرانيا و تحويلها إلى خاصرة رخوة تستنزف روسيا، و بدأ الأمر بتقوية الشعور القومي عند الأوكران، و عندما لم يأتي هذا الأمر بالنتيجة المرجوة دفع الانجلوساكسون أوكرانيا باتجاه النازية حتى صارت تهديداً وجودياً لروسيا نفسها، فكانت العملية العسكرية الروسية هناك هي حرب الضرورة…..
(سيرياهوم نيوز ١٦-٨-٢٠٢٢)