آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » صراع الظلّ والصدى في غياب الهوية..!

صراع الظلّ والصدى في غياب الهوية..!

 

 

 

د سلمان ريا

 

حين تُفرَغ الشعوب من رموزها، وتُترَك هويتها معلّقةً على حبال الانتظار، يغدو أبسط تفصيل – شعار، لون، كلمة – ساحةً لصراعٍ رمزيّ يتجاوز ما يبدو على السطح. ليس لأن الشعار في ذاته مسألة وجود، بل لأنّه يتحوّل، في لحظةٍ ما، إلى مرآةٍ كبيرة نرى فيها هشاشتنا، وتتكثّف فوقها كل الشكوك المؤجّلة، وتُسقَط عليها ظلال جراحٍ لا نجرؤ على لمسها.

 

في سوريا، وفي ظلّ وطنٍ لم تندمل شقوقه، بدا الجدل حول الشعار البصري الجديد كعاصفةٍ تنفلت من عقالها. انقسمت الأصوات بين مادحٍ يهتف بانفعال، وقادحٍ يهجو بضراوة، وكأنّنا لا نناقش تصميمًا، بل نقيم محاكمةً لذواتنا الغامضة. كلا الفريقين لم يتورّط في قراءةٍ فنية، ولا في تحليلٍ دلالي، بل كان كلٌّ منهما، على طريقته، يصرخ من مكانٍ ما في الداخل.

 

في عمق هذا الانفعال، تطفو إلى السطح أعراض ما يسمّيه علم النفس عقدة الدونية؛ حيث يشعر الإنسان أن قيمته رهن بما ينتقصه من الآخر. فيندفع إلى تقزيم كلّ ما حوله، لا لأنّ العالم بشعٌ في ذاته، بل لأنّ عينه أُدمنت الارتياب، حتى غدا الجمال أمامه خيانةً لمظلوميته. لا ينبع نقده من وعيٍ ناضج، بل من قلقٍ داخليّ يسعى إلى تبديد شعورٍ خفيٍّ بالعجز. كأنّه يعلن بلا صوت: “إن لم أُسقِط العالم من حولي، سيسقطني ثقله داخلياً.” فتتحوّل السخرية إلى درع، والرفض إلى قناع يحجبه حتى عن صورته في مرآة الذات.

 

وعلى الضفّة الأخرى من المشهد، يظهر نمطٌ سلوكيّ لا يقلّ اضطراباً، لكنه يسلك طريق التزلّف بدل المجابهة. هنا نجد من يبرّر، ويُمجِّد، ويُفرط في الإشادة، حتى يخال المتابع أن ولاءه المطلق للرمز كفيلٌ بإثبات وجوده. هذا السلوك ينبع، كما تشير نظرية التحليل النفسي، من عقدة الخصاء، حين يتماهى الفرد مع القوّة خشيةَ فقدان ذاته الضعيفة، فيخضع لها طواعية، ويسلك مسلك التبجيل لا حبّاً بالحقيقة، بل خوفاً من الانكشاف.

 

هكذا نجد أنفسنا أمام نمطين متقابلين، كلاهما متأزم: أحدهما يهاجم كلّ شيء ليثبت لنفسه أنّه ما زال قائماً، والآخر يتماهى مع كلّ شيء خوفًا من أن يسقط. وبين الطرفين، تبقى فئةٌ ضئيلة، كحبات الضوء في ماءٍ مضطرب، تزن الأمور بميزان العدل الداخلي، وتعرف كيف تقول “أحسنت” دون مبالغة، و”أخطأت” دون أن تهتزّ صورتها أمام ذاتها. أولئك وحدهم من لا يرون في النقد إعلان عداوة، ولا في الثناء بيعًا للكرامة.

 

لكن لماذا يتحوّل شعارٌ – في مظهره – إلى ميدان احتدام؟ ولماذا نُغرق أنفسنا في عراكٍ على صورة؟ الجواب لا يكمن في الشعار نفسه، بل في ما يُعرف بالغريزة القطيعية، حين يفقد الإنسان ثقته بذاته، فيذوب في جماعة تتيح له أن يصرخ، لا لأنه يملك رأيًا، بل لأنه يخشى أن يكون وحيدًا. فيتحوّل الرأي إلى هويةٍ بديلة، والموقف إلى رايةٍ تُرفع لا لقناعةٍ بل لحاجةٍ نفسية بالانتماء.

 

في المجتمعات التي خرجت من الحروب بلا شفاء، يصبح كلّ خلافٍ فرصةً لتصفية الحساب مع الذات. كلّ رمزٍ يتحوّل إلى جبهة. كلّ رأيٍ إلى معسكر. ويضيع الصوت المعتدل بين عاصفة المديح المجاني، ودوامة الرفض الغريزي، فلا يُسمع إلا صداه الخافت.

 

ما يحدث في سوريا ليس جدلاً حول شعار، بل هو ارتباكٌ جماعيّ في تعريف الذات. هو غياب البوصلة الرمزية، حيث يُقاس الانتماء بالصراخ، وتُوزَّع الوطنية كما تُوزَّع الأدوار في مسرحٍ ضبابي. لا أحد يسأل السؤال الحقيقي: من نحن الآن؟ لا كدولةٍ فحسب، بل كأفراد فقدوا القدرة على القول الصافي، وعلى الحُكم الذي لا يخاف أن يكون حرّاً.

 

هكذا، في ظلّ هذا التيه، يطفو الصدى بلا مصدر، ويتراقص ظلّنا على جدران الخوف. وما الشعار إلا سطحٌ عاكسٌ، أضاء للحظة وجوهنا المتعبة. فانقسمنا – كما نفعل دائماً – لا لأنّنا مختلفون، بل لأننا لا نحتمل أن نكون صادقين.

(موقع اخبار سوريا الوطن-١)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نهاية المواجهة أم هي استراحة؟

كلُّ طرفٍ في الحرب أعلن انتصاره. ترمب تولَّى الإعلان عن الهجوم بـ14 قنبلة خارقة وتدميرِ ثلاث منشآت نووية، ودعا لصفقة سلام. وإسرائيل وصفت «عم كلافي»، ...