| إسماعيل مروة
اسم مهم ومختلف كان يطرق سمعي مذ كنت طفلاً، اسم إشكالي في عالم السياسة والأحزان في سورية، اسم عريق رافق الحياة السياسية السورية لأكثر من نصف قرن هو صفوان قدسي، الاسم الذي له مهابة ومتابعة وموقف، والذي بقي على قناعاته لم يحد عنها، وبقي على لطفه ودماثته وهدوئه، ولم يتخلّ يوماً، وإن كان غاضباً، عن وقاره وهدوئه ومناقشته..
هذا الاسم القيمة في الحياة السورية السياسية لم أجد متسعاً للاقتراب منه، ولم تجمعني به مواقف وأحداث سياسية، فهو في ميدان حافل صاخب، وأنا لي هدوء اللحظة، وعندما تزاملنا في صحيفة «الوطن» مع السيدة ربى ابنته الإعلامية كانت صورة شفيفة ومحبة عنه وعن لطفه، واستطاعت بحبها له أن تقدم لنا صورة عن هذا الرجل المثقف والسياسي، والذي بلغ مرحلة الفكر العالي في منظومة الحياة السياسية، نظراً لثقافته وبُعد نظره، وممارسته الطويلة للحياة الحزبية الاشتراكية، والتزامه بالخط الناصري، الذي أوجد بينه وبين الخطوط القومية والتقدمية الأخرى نقاط تواصل وتواشج، ولم يبحث عن الخلاف الذي يفرّق في الرؤى.. ولم أكن على موعد مع هذا الأستاذ الجليل، إلى أن نشرت مادة تتحدث عن زيارتي الأولى للقاهرة قبل سنوات طويلة، فوجدت اتصالاً مفاجئاً، وصوتاً لا تخطئه الأذن، وكان الأستاذ صفوان قدسي بمكانته وعمره وثقافته، يحدثني في الزاوية، ويناقشني في زوايا كثيرة سابقة، ولأعلم منه أنه لا يترك كلمة لا يقرؤها لكثيرين، وشرّفني بأن ضمني إليهم.. وأذكر للأستاذ صفوان وهو في عالم الحق اليوم متابعته ومناقشته لكل صغيرة وكبيرة، بدءاً من الغلط المطبعي، وصولاً إلى القضايا الأسلوبية، وانتهاء بسقط أو غلط أو ما شابه، وما تزال رسائله موجودة على الهاتف التي يسجلها بصوته أو بحروفه، لأنه لم يشأ أن يتصل مباشرة خشية أن يكون الآخر مشغولاً، وملاحظاته ملاحظات قارئ مفكر، فلا يكتفي بالتطييب أو النقد، بل هي وقفات مطولة يدوّنها حول ما يقرأ..
وللأستاذ صفوان موقفان أذكرهما هنا، وفيهما دلالة قاطعة على حبه وعلميته وهدوئه، بل على تجاوبه بغض النظر عمن يتحاور معه:
– أقامت وزارة الثقافة منذ سنوات ندوات ثقافية لشخصيات سورية، توليت إعدادها وترتيبها وتحريرها، وحين جاء دور ندوة عن أستاذتنا عزيزة مريدن، اتصلت بالأستاذ صفوان لعلمي أن الدكتورة الراحلة خالته، وطمعت منه أن يشارك في الندوة لتكريم أستاذتنا خالته، وليقدم جانباً آخر من حياتها العلمية والشخصية الغنية، فلم يتردد على الرغم من الحرب والقذائف، وحضر وكان آسراً في حديثه، الشجن في حديثه عن أستاذتنا الجليلة، وتفانيها الأسري وإيثارها، وتفرغها لعلمها وأسرتها وإخوتها، وهذه المشاركة كانت تعني الكثير من قامة سياسية وفكرية تظهر أن الارتباط وثيق بين الشخصيات العلمية ذات المكانة العالية.
– نشر الصديق د. سامي مروان مبيض كتاباً عن عبد الناصر وتجربة التأميم، وفيه نقد واضح وصريح لتجربة التأميم، وحين نشرت دراسة عن الكتاب، ناقشني الأستاذ صفوان مطولاً، وحين أعربت له عن اقتراح الاجتماع بالمؤلف كان أكثر من مرحب، وفي مكتبه في الجبهة الوطنية عقد لقاء مطول غني وحميم، ونوقش الكتاب بتفاصيل دقيقة، وهدوء تام، وانتهى اللقاء بتبادل الكتب والحب، والإعلان عن دعم أي حوار ولو كان هناك من خلاف في الآراء حول قضية ما.. ولكن الأستاذ يومها لم ينس أن يعطينا معلومات من ذاكرته تنصف جمال عبد الناصر في سياسته وحياته وتجربته، وهذا اللقاء أعطاني فكرة مهمة أيضاً عن سعة صدر الإنسان السياسي في تقبل الرأي الآخر، وإن كان في داخله يمثل مساساً بمقدسات يراها، لكن بحسه السياسي العالي يحترم الآخر، ويقدم بين يديه ما يراه مناسباً للنقاش.. وبعد الجلسة كتب الأستاذ صفوان عن الكتاب، وكأنه شخص لا يعرفه، ما يدل على أن الحوار شيء، والعلاقة بالأشخاص شيء آخر!
في آخر رسالة استقبلتها من الأستاذ صفوان في 10 أيلول 2022 أرسل مجريات المؤتمر العام السادس عشر لحزب الاتحاد الاشتراكي المنعقد في 7 أيلول، وهاتفني ليقول:
أعلم أنك لست متحزباً، وقد لا يعنيك، لكنني كما أشارك في قراءتكم، أود أن أشاركك النشاط وصوره.
اليوم يغيب صوت صفوان قدسي، وتبقى شمائله، ويغيب شخصه وتبقى ابتسامته الدالة على شخص أحب سورية ولم يفارقها، دعم نهجها ولم يتخلف يوماً، وكان مدركاً للمخاطر التي تحيق بسورية.
حقيقة سأفتقد صوته وملاحظاته ومتابعاته وتصويباته، ولاشك في أن الحياة السياسية السورية فقدت واحداً من شخصياتها المهمة، فالعزاء لسورية والفكر القومي العروبي، ولأسرته التي ستشعر بمرارة فقد الأب والحاني وصاحب الرؤية.
وداعاً صفوان قدسي وفكرك باقٍ.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن