باسل علي الخطيب
في الأول من تموز من العام (1798)، دوت في سماء الإسكندرية المصرية أصوات مدفعية السفن الفرنسية الغازية، تلك الأصوات كانت كالصواعق في سماء الوجدان العربي و المسلم الراكد ركود الأموات آنذاك، استفاق القوم حينذاك ليعوا، و لكن ببطء شديد، كم هم متخلفون! كانت بدايات النهضة و الثورة الفكرية آنذاك، هي في الوعي و الاعتراف أننا متخلفون، و ذلك عبر السؤال،الذي طرحه كل رواد الإصلاح آنئذ، ألا و هو: لماذا تخلفنا؟ لماذا تقدم الغرب ذلك التقدم المذهل؟ لماذا نحن متراجعون في كل المجالات العلمية و الفكرية و الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ؟…
بدأت الإجابة ترتسم بكل وضوح، عندما كانت النية بالإصلاح نية صادقة و جادة. نحن على مدى تاريخنا الطويل، عظمنا نهج العلوم الشرعية الفقهية، على حساب العلوم العقلية و المنطقية، كانت نظرة الفكر التأسلمي للعقل على أنه (كيان نسبي)، و من ثم، يجب أن يكون تابعاً للنص، الذي هو (مقدس مطلق)، كانت النظرة إلى العقل أنه يجب أن يكون محدوداً بحدود الشرع، و تكمن مهمته فقط في تطبيق النصوص من دون نقاش أو تمحيص أو تدقيق، كل ذلك، جعل العقل عندنا محدود القيمة و الفاعلية و الإنتاجية، عندما كبل بالحدود الشرعية، التي كانت قاسية إلى درجة أن تلك الحدود، قتلت، أو نفت، أو اضطهدت كل من فكر أن يستعمل عقله خارج إطارها، لذا انطوى العقل لدينا على نفسه، و لم يغامر بالبحث عن المعرفة خارج إطار الفكر الديني.
هكذا كانت بدايات تشكل الوعي عندنا، و هكذا كانت بداية النهضة الفكرية؛ بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، و ذلك عندما كان تحديدنا لأسباب تخلفنا صريحاً و دقيقاً، و لكن الردة على تلك الصحوة، لم تطل طويلاً، و كانت ردة عنيفة و غاشمة، تلك الردة، التي حصلت في بدايات القرن العشرين؛ وصولا إلى منتصفه، تذكرنا بأسطورة حروب الردة إياها، تلك الحروب، التي نسجت حولها الأساطير المقدسة، و كانت المسمار الأول و الأكبر في نعش دين محمد بن عبدالله.
الردة الحديثة على تلك الصحوة، تجلت في أمور عدة؛ أولها: ظهور التيارات و الجماعات في ما سمي لاحقاً الإسلام السياسي، التي تمثلت بجماعة الإخوان المسلمين، التي ظهرت في مصر في عشرينيات القرن العشرين، و كل الأحزاب و التيارات الدينية الأخرى، تفرعت منها لاحقاً. و قد أدى ظهور الإخوان المسلمين إلى تخريب مشروع الإصلاح و وأد النهضة في مهدها، عندما قلبوا المعايير بشكل كامل، فبدل أن يعترفوا بتخلفنا، و أن الغرب أفضل، و أن أسباب تقدمه هي إعمال العقل، و تقدير العلم، و احترام القانون، قالوا: إن الغرب منحل و فاسق و قبيح، و نحن المسلمون أفضل الكل، نحن أفضل من الجميع فقط لأننا مسلمون؛ نعم، نحن متخلفون على مختلف الأصعدة، و لكننا أفضل من الجميع؛ لأننا مسلمون، و نقطة على السطر، هذا المفهوم أسهم في تقويض مجتمعاتنا بشكل كبير.
التجلي الثاني لتلك الردة، كان في ظهور البترول في أرض البداوة، تلك الثروة الهائلة، اتحدت مع الوهابية، ذاك الدين البدوي المتوحش المعادي للإنسانية، امتطت الوهابية ظهر ذاك المال، الذي تدفق بكميات هائلة، و تغلغلت في عالمنا الإسلامي، تمت عولمة البداوة و الوهابية، أنفق أولئك البدو المليارات، لا ليلحقوا بالحضارة، إنما ليلحقوا البقية ببداوتهم و همجيتهم و توحشهم. و كان أن اتحدت الوهابية مع الأخوان المسلمين، و اجتاحت تلك العقيدة الهجينة المسخ كل بلادنا، و امتد تأثيرها إلى كل نواحي الحياة، بل و امتد تأثيرها إلى كل الجاليات المسلمة في بلاد الغرب، و منعت المسلمين من الاندماج في تلك المجتمعات، و هذا ليس مستغرباً، فكيف يندمجون، و تلك العقيدة البدوية المتوحشة صورت الآخرين على أنهم خنازير، و أنت أيها المسلم أفضل من أولئك الخنازير؟!
هل فهمتم السبب وراء العدد الهائل من الإرهابيين، الذين أتوا من أوروبا؛ ليقاتلوا في صفوف التنظيمات الإرهابية في سورية و العراق؟!
تلك العقيدة المسخ، تسللت إلى كل نواحي الحياة، كما أسلفنا، و أسهمت في صناعة كل بنيات التخلف و حمايتها. استفحل الأمر و لم يعد التخلف مقتصراً على مؤسسات الدول، إنما أضحى مستحكماً بنيوياً في العقول و الأذهان و الأسرة و النظام التربوي و التعليمي و الثقافي و الإعلامي، و في العلاقات بين أفراد المجتمع.
التجلي الثالث لتلك الردة، كان في نشوء الكيان الصهيوني العام (1948)، الذي أسهم بشكل كبير في تقويض تلك الصحوة، كان لسلسلة الهزائم، التي منينا بها في صراعنا مع العدو الصهيوني، وقع رهيب على مجتمعاتنا، التي لم تجد للتغطية على هزائمها و عجزها أمام تلك العقبة، إلا في العودة إلى الماضي، ذاك الماضي، الذي أعطيت عنه صورة جميلة غير صحيحة، بل و غير موجودة أصلاً، صرنا نحلم بذلك الماضي، و نتغنى به، متمنين عودته؛ فكان أن تسبب ذلك في وقوعنا في أزمات نفسية خانقة، تجلت في انفصام الوعي، و ارتباك الذهن، بين واقع المتخلف، مقرونا” بأحلام استعادة الماضي، و بين ذاك العالم المتقدم، الذي يداهمنا في كل لحظة بتفوقه و ضغوطه و غطرسته و استعماره.
التجلي الرابع لتلك الردة، تمثل في أن بلادنا كلها، و من بعد الاستقلال، نشأ فيها نموذج (الدولة المزدوجة)، تلك الدولة، كانت تحمل كل عوامل الانفصام في بنيتها، فمن جهة، أضحت لدينا مؤسسات حديثة، و لكنها تدار وفق عقلية تقليدية، استعملت وسائل قديمة بالية في إدارة هذه المؤسسات، و قد حول هذا تلك المؤسسات إلى مجرد هياكل خاوية، و لم يجعلها رافعة للتطور، إنما حاملاً للتخلف و حضناً له، و كان ذلك، في جزء منه، نوعاً من مجاراة لتيارات الإسلام السياسي إياها، ليس من مبدأ التوافق مع هذه التيارات، إنما كان ذلك شكلاً من أشكال التنافس مع التيارات على شرعية ملكية الماضي و الإسلام، فكان أن أنتج ذلك تلك النظرة إلى مظاهر التحديث، و كل ما يمكن أن يأتينا من الغرب على أنها مظاهر استعمارية غريبة، فرفضناها، و قاومناها، و لكن في الوقت نفسه، لم تستطع تلك الدول أن تستغني عن التحديث بالمعنى المادي، فاستوردنا التكنولوجيا الحديثة بأشكالها كافة، و لم نستورد الفكر العلمي، الذي أنتجها، و حافظنا على بنية التفكير التقليدية، و هذا عمق أكثر ذاك الانفصام، الذي تحدثنا عنه أعلاه، الذي جسده ذاك الفصل بين التكنولوجيا و أسسها العلمية و الفكرية و الفلسفية.
راكمنا الماضي بكل ما فيه في عقولنا، حتى استحال صنماً، هل تريدون أن تعرفوا ما هي قمة النفاق؟ تلك الازدواجية، التي اكتنفت مجتماتنا، كانت إحدى تجليات النفاق، قمة النفاق، أننا نمارس الوهابية، و من ثم ندعي أننا نحارب الفكر الوهابي، إنها الوهابية المقنعة.
(سيرياهوم نيوز1-خاص بالموقع31-8-2022)