د.سلمان ريا
الشرقُ يا أحبّتي ليس ظلّاً على خرائط الغزاة، بل هو صدى الأرواح منذ فجر الخليقة، وهو الينبوع الذي ارتوت منه البشرية قبل أن تعرف أسماءها، وهو النبض الأول للكون حين رسمت النجوم طريقها. وكل حجر فيه، وكل نهرٍ وكل وادٍ، يحمل ذاكرة السماء والأرض معاً. ومع ذلك، لم يكن الشرق في أعين الغرب إلا موضوعاً للكتابة، وصورة تُرسم بالافتراضات، لا حياةً تُعاش، ولا روحاً تُفهم.
لقد قال جبران: “الويل لمن ولدته أمه على طريق الحرير.” وهو ويلٌ لم يأتِ من التجارة وحدها، بل من لعنةٍ صارت قدراً. طريقٌ عابرٌ للغزاة، من الحرير إلى الحديد، ومن التوابل إلى البنادق، ومن الكلمات إلى السجون. طريقٌ فُتحت أبوابه للعالم، لكن العالم لم يدخل ضيفاً، بل دخل ليمتلك، وليكتب الحكاية بلسانه، لا بلسان روح الأرض.
ومن هناك جاء الاستشراق، لا مرآةً صافية، بل قناعٌ يخفي الحقيقة. لم يكن المستشرق باحثاً عن الشرق، بل صانعًا لشرقٍ جديدٍ على الورق؛ شرقٍ جامد لا يتحرك، شرقٍ عاجز لا يعرف أن يشعل شمعة في قلبه، شرقٍ يحتاج إلى عقل غربي ليعلّمه كيف يكون. هكذا صار الاستعمار واجباً أخلاقياً في خطابهم، وصار النهب حقًا مشروعًا، وصار الشرق طفلًا أبدياً يُقاد بالسلاسل.
وحين تحدّثوا عن الإسلام، أرادوا أن ينزعوا عنه سره، فقالوا إن نبوّة محمد ليست إلا صدى للتوراة والإنجيل. لكنهم تناسوا – أو أرادوا أن يتناسوا – أن التوراة والإنجيل هما من هذا الشرق أيضاً، وأن أنبياءهما مشوا على هذه الأرض نفسها، وأن نبوءاتهم نُطقت بلسانٍ من ألسنة الشرق ذاته. لقد أرادوا أن يفصلوا القرآن عن أهله، والإنجيل عن أهله، والتوراة عن أهلها، ليصبح الشرق كله غريبًا حتى عن ذاته.
ولم يكتفوا بما كتبوه، بل أعادوا إنتاج الصورة ذاتها مراراً: اقتبس بعضهم من بعض، حتى صار الشرق عندهم نصاً يتكرر، لا حياة تتحرك. لم ينصتوا إلينا، بل تكلموا نيابة عنا، وجعلوا من صمتنا حجةً ليملؤوا الفراغ بأصواتهم.
ذلك هو الاستشراق كما رآه إدوارد سعيد: خطابٌ لا يصف الشرق، بل يخترعه. معرفة ليست بريئة، بل أداة في يد السلطة. إنه الوجه الآخر لطريق الحرير، الذي حمل يومًا الحرير والبهارات، ثم صار يحمل البنادق والخرائط والكتب المقيّدة بالافتراضات، وصار يحمل روح الشرق مسلوباً، عالقاً بين السماء والأرض.
أجل، الويل لمن وُلد على هذا الطريق. الويل لمن صار جسده معبراً للأطماع، وصوته صدى لغيره، وتاريخه أوراقًا يكتبها غريب.
ومع ذلك، يظل في الشرق سرٌّ لا يزول: أنّه مهما حُبس في الكلمات الغريبة، يبقى قادرًا أن يتكلم بلسانه، ويشعل نوره في الظلام الكوني، ويستدعي طاقاته من أعماق الأرض ومن مجرات السماء. ومهما أُعيد تشكيله في العقول الغربية، يبقى قادراً أن يعيد تشكيل ذاته، وأن يحوّل القيود إلى جناح، والخرائط المقطوعة إلى أمواجٍ تتدفق في الكون، ويقوم من جديد، لا بوصفه موضوعاً مكتوباً، بل ذاتاً حيّة، كالكواكب التي تدور بوعيها في السماء، تصنع كتابها بيدها، وتروي حكايتها بصوتها، لتتلو على الزمان نفسه نشيد الحياة، وتخبره أن الشرق حيٌّ، وأن الروح فيه أبدية.
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)