| آمال خليل
استغل الرجل السبعيني الهدوء المتقطّع الذي شهده مخيم عين الحلوة قبل ظهر أمس، لإجلاء بقراته المحاصرة منذ خمسة أيام في زريبة في حي الصفصاف. أخرجها واحدة تلو أخرى، ونقلها عبر بوابة حاجز للجيش اللبناني عند نقطة النبعة، قبل أن يحمّلها في شاحنة كانت تنتظر في المرأب المقابل. ما إن لمح الكاميرا، حتى انفجر غاضباً طالباً الابتعاد عن طريقه… «اتركوه يفشّ خلقه. لقد قبّل الأيادي ليحصل على إذن أمني لإخراج رأسماله ومصدر رزقه»، قال أبو محمد، وهو صاحب كوخ لبيع القهوة عند كوع النبعة – سيروب.
عند نقطة النبعة، أحد حواجز الجيش التي تنتشر حول المخيم. من هناك، نزح مئات من أهالي حيَّي حطين وصفورية بعد تمدد الاشتباكات بين فتح والإسلاميين إلى زواريب كانت آمنة سابقاً. قبالة الحاجز، يسيّر سائقو التاكسي «دوريات» مستمرة لاصطياد الزبائن الخارجين المنهكين من ثقل التهجير والتدمير، منهم من حمل حصيرة ليفترشها أرضاً، ومنهم من حمل فرشاً وأغطية، بينما اصطحب آخرون أقفاص العصافير والقطط والكلاب. لا تحتمل الوجوه المتحسّرة على ما تركوه خلفهم أيّ جدال مع السائقين الذين لم يتوانوا عن فرض تسعيرات خيالية على «التوصيلة» إلى الميّة وميّة والفيلات أو سبلين والرشيدية…
بتثاقل، يخرج رب عائلة من جحيم عين الحلوة. يتأبط أكياساً فيها ثياب وأدوية وحاجيات أطفاله المتعلّقين برجليه. صبر لأيام قبل أن يقرر النزوح من منزله في شارع حطين بسبب نوبات الهلع والبكاء الهستيرية التي أصابت أطفاله. يشير إلى الزواريب التي كانت آمنة حتى أول من أمس، حينما توسع القتال إلى مستويات غير مسبوقة. على مقعد، جلس أبو يوسف في انتظار سيارة تقلّه إلى منزل ابنته في سيروب. وهو كان قد نزح مع زوجته من الصفصاف منذ اليوم الأول للجولة الثانية من الاشتباك ليل الخميس الماضي. ظنّ بأن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرم بين هيئة العمل الفلسطيني المشترك والأمن العام صار نافذاً، فعاد إلى منزله لتفقده. أمام العتبة، سقطت قذيفة قربه فأصيب بشظية في قدمه. أسعف إلى مستشفى الهمشري، لكنه لم يتلقّ العلاج اللازم لعدم توافر طبيب عظام. فاضطر إلى الانتظار يومين ليعود ويخضع لجراحة.
يقول أبو يوسف إن المخيم «مليان بالناس… لم يخرج سوى ثلثَي السكان. كثر فضّلوا البقاء في عين الحلوة لكي لا يتشردوا في الطرقات. وهناك من اتخذ إجراءات وقائية تقيه النزوح كالتجمع في الطبقات الأرضية». في عين الحلوة الذي لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع واحد، تتفاوت نسب الخطر. يستعرض أبو أحمد الحركة العادية في الشارع التحتاني الممتد من بستان القدس إلى مسجد خالد بن الوليد، حيث فتحت المحال أبوابها، فيما لم يضطرّ أهالي الزيب وعرب الغوير وعمقة إلى النزوح.
يومياً، يحصي أبو محمد حركة النزوح على حاجز النبعة. يأسف لمصير شعبه، لكنه يحمد ربه لأنه ارتاح من همّ الشتات. الفتحاوي العتيق أجبر عام 2019، على بيع البناية التي يملكها قرب منزل أسامة الشهابي في حي النبعة. تهجيره القسري خارج عين الحلوة توّج سنوات من الكرّ والفرّ بينه وبين الإسلاميين دام لأكثر من ثلاثة عقود. ويقول: «عايشت هنا عشرات الاشتباكات: من الحرب الأهلية، إلى حرب المخيمات والاشتباكات بين فتح والإسلاميين. لكننا الآن وصلنا إلى ذروة الصراع. يريدون إنهاء عاصمة الشتات وحق العودة».
عند مشارف تلة سيروب المشرفة على عين الحلوة، تجمّع صحافيون لمتابعة انهمار القذائف فوق الأحياء. كثر استعانوا بشبان من المخيم لشرح أسماء الأماكن التي يسمع منها إطلاق الرصاص وتتساقط فيها القذائف أو تطلق منها. من بين هؤلاء الشبان، من حضر ليتفقد حيّه ومنزله. ومنهم من استعان بـ«زوم» عدسات الكاميرات لتقريب الصورة والتدقيق في ما إذا كان منزله طاوله قصف أو حريق.
أعلنت وكالة الأونروا عدم قدرتها على استقبال المزيد من نازحي المخيم في مراكز الإيواء
في مدرسة نابلس التابعة للأونروا في حيّ الست نفيسة، تحوّل حوض المغاسل إلى مراحيض يستحمّ فيها نازحو عين الحلوة الذين آوتهم الوكالة فيها. المشهد يتكرر في مدرستَي بير زيت في صيدا وبيت جالا في سبلين (إقليم الخروب) التي حوّلتها الأونروا إلى مراكز إيواء. التجمع الموازي لمراكز الأونروا، قاعة وباحة مسجد الموصلي الواقعة عند مدخل التعمير. حاولت الوكالة إقناع النازحين بالانتقال إلى مدارسها، لكن بعضهم رفض مصرّاً على البقاء بجوار المخيم ليكون أول العائدين ما إن يهدأ القتال. في أيام النزوح الأولى، عانى النازحون من قلّة الطعام ومن حاجيات. لكن جمعيات محلية ودولية عدة أمّنت، كلٌّ على حدة، وجبات طعام يومياً، مع نشاط بارز للجمعيات ذات التوجه الإسلامي، ولا سيما القريبة من الجماعة الإسلامية وحركة حماس. ومساء أمس، أعلنت وكالة الأونروا في بيان عدم قدرتها على استقبال المزيد من نازحي المخيم بعد ازدحام مدارسها في مدينة صيدا ومركز سبلين للتدريب المهني التي حُوّلت إلى مراكز الإيواء.
يتحرّق أهالي عين الحلوة شوقاً للعودة إلى ممتلكاتهم وتفقد ما لحق بها. لكن الجيش يفرض إجراءات مشددة على حركة الدخول. من يخرج لا يمكنه العودة. أكثر ما يشغل بال النازحين المدة التي ستسلزمها ورش إعادة الإعمار وإمكانية إنجازها قبل حلول الشتاء. في الاشتباكات الأخيرة بين فتح والإسلاميين (اشتباك حي الطيرة عام 2017 واشتباك حي المنشية عام 2019)، احتاج أصحاب المنازل المتضررة إلى شهور عدة للاستحصال على تراخيص لإدخال مواد البناء عبر حواجز الجيش لزوم إعادة الإعمار والترميم. فكم سيحتاجون في ظل الدمار شبه الكامل لعدد من الأحياء؟
صيدا لأهلها الفلسطينيين
لا يمكن إحصاء عدد النازحين من عين الحلوة خلال الاشتباكات الأخيرة بدقة. الأونروا تحصي من تؤويهم في مراكزها. تتحدث عن حوالي ستة آلاف عائلة. فيما جمعيات الإغاثة تقدرهم بحوالي 30 ألفاً. مهما كان العدد، فإن صيدا تتحمل عبء نزوحهم كما تتحمل عبء القتال المستمر منذ نهاية تموز الماضي. وكما اعتادت عاصمة الجنوب، فتحت الجمعيات الأهلية أبوابها لإيواء النازحين وتأمين حاجياتهم. وبادر البعض من أصحاب الشقق والمحال إلى تقديمها لعائلات تشرّدت في العراء، ولا أقرباء لها تلجأ إليهم. أحمد البني، المتطوع في مستوصف الشهيد رشيد بروم، استعرض مبادرات فردية عدة لأشخاص استضافوا نازحين أو تبرعوا لشراء حاجياتهم. منهم من قدّم عدة محالّ تجارية له، ليُسكن فيها أكثر 23 عائلة هُجّرت من حيّ الطوارئ، قسّموا المحالّ غرفاً للإقامة المؤقتة. وفي المدينة الصناعية في سينيق، استضاف صاحب معرض عائلات نازحة. في المقابل، أشار البني إلى «استغلال بشع من بعض التجار وأصحاب الشقق. منهم من رفع بدل الإيجار من 50 إلى 700 دولار دفعة واحدة. ومنهم من رفع سعر الفرش إلى 20 دولاراً، بعدما حركت الجمعيات والمتطوعون السوق بكثرة الطلب على الاستئجار والفرش والبطانيات والمواد الغذائية وأدوات التنظيف وحليب الأطفال». في المقابل، وصلت الحركة التجارية في صيدا إلى أدنى مستوياتها في اليومين الماضيين بعد ارتفاع حدة الاشتباكات وتساقط الرصاص الطائش في أرجائها. أبرز المتضررين سوق الخضر (الحسبة) الذي يعد عين الحلوة المجاور على رأس مستهلكيه.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار