شفيق طبارة
تُعيدنا فضيحة جيفري إبستين التي تتوالى فصولاً إلى مسلسل وثائقي من أربعة أجزاء يعرض على نتفليكس بعنوان «جيفري إبستين… الثريّ القذر» (2020). يُظهر الوثائقي كيف شقّ إبستين طريقه إلى عالم المال عبر الأكاذيب والتلاعب. حاول الدراسة الجامعية لكنّه لم يتمكن من إكمالها. مع ذلك، حصل على وظيفة مدرّس رياضيات وفيزياء في «مدرسة دالتون» المرموقة في نيويورك باستخدام معلومات كاذبة. بعد ذلك، بدأ بتكوين شبكة اتصالات تساعده للوصول إلى وول ستريت. بدأ حياته المهنية المالية في البنك الاستثماري «بير ستيرنز»، حيث اكتشف أحد رؤسائه الأكاذيب في سيرته الذاتية، لكن إبستين عرف كيف يقنعه ويتلاعب به فبقي في الشركة. لقد أبلى بلاءً حسناً، فبعد مغادرته، أسّس شركته الخاصة J. Epstein & Co. مواصلاً شق طريقه بين أصحاب الملايين. اشترى منزلاً كبيراً في المنطقة الأكثر تميّزاً في فلوريدا، وأصبح صديقاً لرجال أعمال أثرياء. ثم اشترى منزلاً في نيويورك وآخر في باريس، وأيضاً الجزيرة الشهيرة التي نعرف عنها الكثير اليوم.
من مسلسل «جيفري إبستين… الثريّ القذر» (2020)
أما الثقل الأساس للوثائقي، فهو شهادات ضحايا هذا الرجل أي النساء اللواتي يستعدن أمام الكاميرا لحظات مزعجة في حياتهن عندما كنّ مراهقات. يروي الوثائقي الأساليب التي استخدمها إبستين لإقناع الفتيات الآتيات بمعظمهن من عائلات مدمّرة ومفكّكة (كنّ ضحايا اعتداء جنسي سابق، يعانين من الحرمان العاطفي والاقتصادي)، للعمل لديه كمدلّكات مقابل 200 دولار. عند الوصول إلى قصره في منطقة بالم بيتش الحصرية في فلوريدا، يصبحن تحت سيطرته. يترك إبستين لهنّ باباً واحداً للفرار يتمثل في إحضار الفتاة المستغلَّة صديقاتها، مقابل أن يدفع لها إبستين 200 دولار كل مرّة. هكذا منذ البدايات نسج شبكته الخاصة بالإتجار بالبشر، ليس لنفسه فقط، بل أيضاً لأصدقائه المعروفين الذين كانوا يشاركونه رحلاته إلى جزيرته. تُظهر النساء اللواتي أدلين بشهادتهن في الفيلم، الذي أخرجته ليزا براينت، الندوب العاطفية والجسدية للعنف الذي تعرّضن له. يتحدث بعضهن للمرة الأولى كيف تمكّن هذا الرجل من شق طريقه واستغلال النظام القضائي الأميركي لمصلحته.
«جيفري إبستين… الثريّ القذر» مقتبس عن كتاب بالعنوان نفسه للكاتب الأميركي جيمس باترسون، يضيء على الملياردير النافذ، وأشهر فضيحة جنسية في أميركا، والعدالة التي تُشرى بالمال. يركز الوثائقي بأجزائه الأربعة على الضحايا والحياة التي تركها لهن إبستين الموسومة بالصدمة والألم والعجز. بعد إسكاتهن وتهديدهن من قبله أو من قبل من حوله، اضطرت الضحايا لمغادرة الولايات المتحدة أو الابتعاد عن المدن التي يمتلك إبستين عقارات فيها. الصادم أنّ هذه الأفعال حدثت على مرأى ومسمع العديد من الأشخاص داخل وخارج الجزيرة، وموظفي إبستين وأصدقائه الذين كانوا متواطئين معه أكان بالاغتصاب والتحرش أو بغض الطرف عن ممارساته. تُسحق قصص الضحايا تحت عجلات النظام القضائي الذي كان يعمل ضدهنّ دائماً. جوهر الوثائقي هو كشف الفخ القانوني الذي كان المدعي العام الفيدرالي ووزير العمل المستقبلي لدونالد ترامب، ألكسندر أكوستا يتفاوض عليه للحصول على حصانة لإبستين. يُظهر أيضاً كيف أن الشهود لم يفعلوا دائماً ما يتوجّب عليهم فعله، والشرطة التي يتم إسكاتها بالمال، وأيضاً الصحافيين الذي تم شراء تقاريرهم كي لا تنشر.
يعرض الوثائقي تفاصيل قانونية تترك تداعيات تفسّر الثغرات في القصة الكاملة التي تُكشف أمام أعيننا. لا نعرف تماماً عدد المراهقين والسياسيين والشخصيات المشهورة والممولين والقضاة والعملاء الفدراليين الذي مارس عليهم إبستين نفوذه عبر أشرطة فيديو أو تسجيلات خاصة سجّلها لهم من دون علمهم. في الوثائقي، لا نرى إلا قمة جبل القمامة، ولكنها كاشفة وغنية بالمعلومات الصادمة. يحتوي الوثائقي على الكثير من الصور والمشاهد داخل بيوت إبستين وجزيرته وضيوفه ومنهم دونالد ترامب وبيل كلينتون، وطبعاً الأمير أندرو. كما يحوي مقابلات مع موظفين سابقين لإبستين، ورئيس الشرطة السابق مايكل رايتر، وهو فرد رئيسي في القضية الجنائية الأولى ضد إبستين، وأيضاً مع صحافيين وقضاة ومحامين. والأهم في الوثائقي، أنّ آلان مورتون ديرشويتز يشرح الإستراتيجية المستخدمة كمحام لإبستين في دفاعه القانوني. الساعات الأربع من الوثائقي، لا تشرح الكثير من الأشياء بسبب التعتيم الإعلامي والقضائي على القضية وقتها، لكنّها نقطة انطلاق جيدة للمضي قدماً وفهم شخصية إبستين وكيفية عمله. إنّ رصيده الكبير هو السماح للناجين بالتحدث مباشرة، وبالتالي رؤية تأثير الصفقة التي توصل إليها فريق محاماة إبستين مع القضاء وقتها، ما منح إبستين والمتآمرين معه الحصانة من الملاحقة القضائية الفيدرالية.
يتمثل الأساس للوثائقي في شهادات ضحايا هذا الرجل
لغز آخر يحاول المسلسل إثارته هو ظروف وفاته، وهذا ما يبدو أكثر منطقيةً بعد التفاصيل التي كُشف عنها هذه السنة. في تموز (يوليو) 2019، قُبض على إبستين بتهمة الإتجار بالبشر، لكن بعد أيام وجد في زنزانته مصاباً وفاقداً للوعي مع وجود علامات حول رقبته. بعد معالجته، نُقل إلى وحدة خاصة لمراقبته. إلا أنه وجد ميتاً (معلقاً بملاءة) في 10 آب (أغسطس) عام 2019، ورجحت التقارير أنه انتحر، قبل أيام من مثوله أمام القاضي في نيويورك. لكن هذه الحقيقة تبدو غير محتملة لعائلته ولبعض الباحثين، إذ إن الإصابات التي كشف عنها التشريح تظهر كسوراً لا تتزامن مع الانتحار. إنّ وفاته هدف لنظريات المؤامرة النموذجية، التي تزعم أنه قُتل. قبل يومين من «انتحاره»، سمح إبستين بنقل ثروته بالكامل إلى جزر العذراء البريطانية، وهي ملاذ ضريبي معروف. وقد يدل ذلك على أنه مات بلا ندم، إذ إنه بتخلّصه من أمواله، منع ضحاياه من الحصول على تعويضات عن كل الأضرار التي لحقت بهنّ. بعد وفاته، ألقي القبض على شريكته غيلين ماكسويل في الولايات المتحدة وأدينت بخمس تهم تتعلق بجرائم جنسية، بما في ذلك الإتجار بالقاصرين، وهي اليوم تقضي عقوبتها في الحبس.
«جيفري إبستين… الثري القذر» وثائقي نموذجي لا يوجد فيه نبرة تآمرية، يثير غضبك، وأيضاً يجعلك تشعر بالعجز ويتركك مع المزيد من الشكوك، وخصوصاً في مواجهة عدم فعالية النظام القضائي في حماية أولئك الذين هم في أمس الحاجة إليه. يظهر كيف أن كل شيء وأي شخص يمكن شراؤه. بعد مشاهده الوثائقي وموت إبستين وحبس شريكته، وتوالي ظهور أسماء مشهورة مرتبطة بالفضيحة، نشعر بالعجز أكثر لأنّ الضحايا لم يحصلن على العدالة، وربما لن تتم ملاحقة هذه الأسماء، والأشنع أنّ ما حدث مقبول باسم المال والنفوذ.
حلقات جديدة؟
لا تستبعد مخرجة الوثائقي ليزا براينت الاستمرار في تحديث الوثائقي بالمزيد من الحلقات بسبب الأحداث المستجدّة. رغم أنّ الوثائقي يصور حياة إبستين حتى النهاية، إلا أنه من المعروف أن عصابة الاستغلال الجنسي للأطفال التي أنشأها واصلت عملها. وقالت: «هناك أشياء لا تزال تحدث. كل بضعة أسابيع، هناك بعض الإجراءات القانونية. أعتقد أنّ التالي هو حلقة تتعلق بإلقاء القبض على هؤلاء المتآمرين. في الحقيقة، نضع ذلك في الاعتبار»
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية