آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » ضرائب على الدول الثرية لا على الأفراد الأثرياء فقط

ضرائب على الدول الثرية لا على الأفراد الأثرياء فقط

محمد فضل الله

 

قسم الاقتصاد في الولايات المتحدة له دورٌ مركزي في تغييب مسألة اللامساواة في الثروة بين الدول في الوقت الذي أصبحتْ فيه ثيمةُ اللامساواة في الثروة بين الأفراد عنواناً أساسياً في أبحاث القسم ودَخلتْ بعد أزمة 2008 في صلب المكتبة المرجعية للقسم. لكن كيف انصبّ اهتمام قسم الاقتصاد على السياسات الحكومية الداخلية وأصبحت العلاقات الاقتصادية بين الدول على هامش أبحاث القسم؟

 

 

الأبحاث في قسم الاقتصاد الأميركي حول اللامساواة بين الدول ضئيلة جداً، وهي على ندرتها وهامشيتها عادةً ما تَنتهي بخلاصات تُصوّرها على أنها مشكلة مستعصية على الحلّ، «طبيعة العلاقات الدولية»، أو مقترحات من قبيل حدّ أدنى للأجور موحَّد عالمياً وحدّ أدنى لأسعار المواد الأولية، وهي أفكار قاصرة تَختزل النشاط الاقتصادي إلى عمالة ومواد أولية، لكن أن تُفرَض ضرائب على الدول الثرية، بغضّ النظر عن نوع النشاط الاقتصادي الذي تمارسه، فهذا خارج الحسبان.

وكذلك هي الأبحاث حول العقوبات الأميركية وأثرها على الاقتصادات المحلية. لذلك، فإن العقوبات، على كارثيتها على هذه الدول، هي خارج النقاش حول السياسات الاقتصادية لهذه الدول، ذلك أن المؤسسة المعنية بإنتاج المعرفة ذات السلطة هي التي تحدّد البنود التي تجب مناقشتها، ليس هناك بنودٌ «تَفرض نفسها» (ودارس الاقتصاد في الأطراف لا يمكنه سوى الالتزام باللغة والبنود التي يُمليها القسم الأميركي، وإلا فإن خطابه «غير علمي»؛ تصوّر لو أن حركة الثقافة المضادة «counterculture» والمواد المخدّرة «psychedelics» والهيبية نَشأتْ في بلد طرفي وليس في كاليفورنيا الستينيات).

صحيفة «الغارديان» (التقدمية) تردّد أن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو «يزعم» أن العقوبات الأميركية كانت السبب في الأزمة الاقتصادية، وكذلك الأمر في إيران حيث العقوبات لا تكاد تَظهر في الأبحاث. الأبحاث حول أثر تحكُّم الاحتياطي الفدرالي بنِسب الفائدة على الاقتصادات المحلية عالمياً لا تجد لها أثراً في القسم (ولا حتى في تقارير صندوق النقد الدولي). يَعتبر الباحث التقدمي الأميركي في قسم الاقتصاد أن الفقراء الأميركيين ليسوا مسؤولين عن فقرهم (هناك بنية أدّتْ إلى ذلك)، أمّا الدول الفقيرة فهي مسؤولة عن فقرها لأن سياسييها فاسدون لا يضعون خططاً للتنمية ولا يشجّعون الإنتاج العلمي.

طبعاً الشعور بالاكتمال الأخلاقي لدى التقدمي الأميركي لا يُضاهى، رغم أنه في قلب نظام الهيمنة والمراكمة، في حين أن الرجعي الأميركي هو أداة أقل فاعلية بكثير. كيف وصلنا إلى هذا المكان حيث تقدّميّو قسم الاقتصاد الأميركي غير قادرين على رؤيتنا ككيانات سيادية ذات حقوق اقتصادية؟ هم يتحدثون عن الأفراد بدلاً من الدول كما لو أن وجود الفرد في نيويورك هو نفسه وجوده في بيروت. اختفينا كدول وتمّ استبدالنا بخطاب مكافحة التغير المناخي، البيولوجيا السياسية الجديدة في خدمة الإمبريالية.

عند نهاية الحرب الباردة، شَرَع قسم علوم الكمبيوتر في الولايات المتحدة في أربعة إنشاءات رئيسية:

أولها، الخط ما بين الأقسامي الذي بموجبه أصبح خرّيجو القسم سلطةً معرفية في الاقتصاد ومنافسة قسم الاقتصاد الذي يَنتمي في الولايات المتحدة إلى مدرسة العلوم الاجتماعية (بُعيد نهاية الحرب الباردة بدأ قسم السوسيولوجيا بالاختفاء تدريجياً، بعدما كان خلال الحرب قسماً مركزياً في الحياة الفكرية الأميركية، لصالح مركزية متزايدة لقسم الاقتصاد، وهناك دراسة نُشرتْ أخيراً تشير إلى أن إنتاج المعرفة ذات السلطة في قسم الاقتصاد، وعلى عكس كل الأقسام الأكاديمية الأخرى، بدأ منذ بداية التسعينيات مرحلةً من التمركز المتسارع في عدد قليل من المؤسسات). وبات الخط (pipeline) المعهود هو أن تَدرس علوم الكمبيوتر (أو الفيزياء) ثم تَدرس الماجستير في قسم البيزنس والفاينانس لتَعمل من ثم في المؤسسات المالية (الحكومية والخاصة) التي تَستفيد من قدراتك في مجال الرياضيات (والدور المتزايد للرياضيات والألغوريثمات في الاقتصاد والفاينانس). هنا يَبرز دور فيشر بلاك وإمانويل ديرمان، الفيزيائيين والرياضيين اللذين شَجّعا هذا التوجه الأقسامي الذي تُوِّج بابتكار البتكوين الذي بُني على ثقافة أقسامية ممتدة إلى نهايات الحرب الباردة، ومثال الشبكة اللامركزية ونموذج نظام لينوكس المستمدّ من الحركة المضادة للثقافة.

حين ابتَكر قسمُ الكمبيوتر البتكوين، كان ذلك لحظة الافتراق الأقسامي السياسي الشامل، وولادة تفسيرَين للأزمة، وبدلاً من تبنّي المساواة كخطاب ما بين دولي اكتفى بالمساواة الفردية لأنه تمّ تذريرنا وحلّ حكوماتنا لصالح استمرارية الحكومة في الحاضرة الإمبريالية

 

ثانيها، نموذج من البزنس لا يقارَن من حيث مستوى النهب والاستعمار بأي نموذج سابق. فمنصات الداتا («ميتا» و»آلفابيت» و»تويتر» وغيرها) تَعمل في دول الأطراف من دون دفْع أي ضرائب للحكومات المحلية ولا حتى امتياز تجاري (franchising) مع شركاء محليين ولا تَخضع لأي قوانين تنظيمية محلية. هي تَفعل ذلك إزاء حكومة الحاضرة الإمبريالية حصراً (ولاحقاً بعض الحكومات «نصف-الإمبريالية»). على الأقل النهب التقليدي كان يَحتاج إلى كومبرادور محلي وإلى شبكة من المصالح المحلية لتَحمي خط استخراج الموارد الطبيعية أو استغلال العمالة الوطنية. وسنرى أن هذا النموذج من العمل هو في قلب النظام المعرفي (وليس الاقتصادي فقط) العالمي (أو بالأحرى «ما بين الدولي»).

ثالثها، جعْل الرقابة الكمبيوترية الشاملة لمجمل التدفقات المالية لصالح الحاضرة الإمبريالية ممكنةً، وبالتالي نظام العقوبات الحديث (بناءً على شبكة الفاينانس الإلكترونية والألغورثمية) بدلاً من نظام الحصار الاقتصادي التقليدي (منْع السفن أو الشاحنات من الوصول إلى البلد الهدف).

رابعها، إنشاء الفضاء الافتراضي كبديل عن الفضاء ما بين الدولي، إذْ إنه من الخطأ التصوّر أن الصراع اليوم هو بين المحلي والعالمي، بل هو بين المحلي والافتراضي؛ فالعالمي (بمعنى ما بين الدولي) تمّ محوه وتبديده مقابل حاضرة إمبريالية مكتملة السيادة وحشد من الأفراد خارجها يتمّ ربْطهم بشبكة من شركات الداتا دون داعٍ لحكومات محلية. حين دعا الرئيس جو بايدن عمّال المناجم في إحدى مناطق نيوهامبشاير (ضمن المناطق التي تشكّل عصب الترامبية) إلى تَعلّم برمجة الكمبيوتر بدل الإصرار على إيجاد عمل منجمي، هو كان يدعوهم إلى المشاركة في نهب أفراد تمّ محو مرجعياتهم السيادية وباتوا طيّعين من ناحية، ومن ناحية ثانية هو يُشير إلى أن مقابل المحلي هو الافتراضي؛ لم يعد هناك ما هو عالمي.

لكن بعد أزمة 2008 شهدنا تحولاً ما بين أقسامي جديداً: الصِّدام المعلَن بين قسم علوم الكمبيوتر وقسم الاقتصاد الأميركييْن (بحلول هذه اللحظة كان القسمان يشكّلان سلطتَين معرفيتَين متوازيتَين في مجال الاقتصاد بفضْل تحولات التسعينيات التي ذكرناها في المقطع السابق)، ومعهما تفسيران أقساميان لأزمة 2008 وكيفية حلّها. في هذه المرحلة شهدنا ولادة مسألة اللامساواة كمسألة مركزية في قسم الاقتصاد وولادة البتكوين في قسم علوم الكمبيوتر (ذروة محاولة القسم الاستيلاء على الاقتصاد). اللامساواة كانت عاملاً أساسياً في مفاقمة الأزمة وجعْلها أكثر استعصاءً بحسب توماس بيكتي (الذي علا نجمه سريعاً في قسم الاقتصاد الأميركي)، في حين أن قسم علوم الكمبيوتر كان يرى الأزمة في البنوك المركزية والحلّ في تجاوزها؛ تحقيق الاستقرار المالي عبر الألغوريثمات ومركزية حفظة الداتا وليس عبر البنك المركزي.

قسم الاقتصاد الأميركي لم يبدِ أي تسامح مع النقد القادم من قسم الأنثربولوجيا لأُسس الاقتصاد الكلاسيكي (بالذات النظرية التي تُعيد أصل النقد إلى سلطة فرْض الضرائب وليس إلى تطويرات للمقايضة والتي بإمكانها إعادة صياغة الاقتصاد الكلاسيكي بأكمله)، بل اكتفى بالتسامح مع النقد القادم من قسم السيكولوجيا، وبالخصوص مسألة عقلانية الفاعل الاقتصادي. ويعود ذلك إلى انتماء الأنثربولوجيا إلى «تعنقد» منهجي منافِس ضمن هيراركي -أي هرمية- الأقسام في الجامعة الأميركية (طبعاً نظريات التبعية والنظام-العالم هي نظريات هامشية جداً في قسم الاقتصاد الأميركي وكثيراً ما تُصنَّف على أنها «هترودوكس» – أي هرطقة، عكس ارثودوكس). وهنا ظهر توتر معرفي داخل قسم الاقتصاد: مَنْ يُصدِر النقْد، آليات السوق أو صاحب السيادة؟ من ناحية هناك اعتقاد راسخ في القسم بأن النقد هو تطوير للمقايضة وأنه لا سياسي في جوهره رغم أن الدولة يمكنها التحكّم في تدفقاته، ومن ناحية هناك تمسّك بكوْن مناط الاقتصاد هو سياسات الدولة. قسم علوم الكمبيوتر والبتكوين كانا أكثر انسجاماً منهجياً، النقد هو تطوير خطّي للمقايضة، وفي نظام البتكوين يُمنَح النقد لأولئك الذين يَحتفظون بالداتا: الداتا بدل الفاينانس، هو امتداد للفاينانس بدل الاقتصاد (لا داعيَ للتخطيط الاقتصادي وسياسات التصنيع والبُنى التحتية، البنك المركزي يتكفّل بالاقتصاد من خلال التحكّم بتدفُّق المال، والحديث عن استقلالية البنك المركزي تزامن مع صعود علوم الكمبيوتر)، وقبله الاقتصاد بدل السياسة؛ حافظو الداتا بدل البنوك المركزية؛ لم يكن بلاك وديرمان يتصوّران أوائل التسعينيات أن قسم علوم الكمبيوتر سيتمكّن يوماً من أن يصبح سلطةً موازية بهذا الحجم.

اختار قسم الاقتصاد الأميركي أن يهاجم البتكوين دون أن الأخذ في الاعتبار آمالنا وتطلعاتنا، نحن مواطني الدول الطرفية، وما رأيناه من إمكانات للبتكوين لتحدّي هيمنة الدولار الأميركي التي تهدِّد اقتصاداتنا وقدرتنا على ممارسة السياسة. فالاقتصاد بالنسبة إلى القسم هو شأن محلي، وسياسات الحكومة المحلية هي التي تُملي الأمر برمّته، ولا شيء في أبحاث قسم الاقتصاد الأميركي يُشير إلى أن هناك داعياً لتحدّي هيمنة الدولار أو أن هناك أي أثر سلبي لهذه الهيمنة على الاقتصادات خارج الولايات المتحدة. قسم الاقتصاد الأميركي بنى رؤيته للعالم على نموذج البيزنس الذي أرساه قسم علوم الكمبيوتر في الأطراف (مقابل انصياعه الكامل لشروط الحاضرة الإمبريالية)، وحين ابتَكر القسمُ البتكوين كان ذلك لحظة الافتراق الأقسامي السياسي الشامل، وولادة تفسيرَين للأزمة، وبدلاً من تبنّي المساواة كخطاب ما بين دولي اكتفى بالمساواة الفردية لأنه تمّ تذريرنا وحلّ حكوماتنا لصالح استمرارية الحكومة في الحاضرة الإمبريالية. البنك المركزي الذي يدافع عنه قسم الاقتصاد ضد البتكوين هو البنك المركزي الأميركي (الاحتياطي الفدرالي) وليس المقصود بأي حال البنوك المركزية في الدول الطرفية. ماذا نحن في الأطراف فاعلون في هذه الحالة؟ أن نكافح من أجل تحرير المسكوت عنه في قسم الاقتصاد الأميركي: فرْض ضرائب على الدول الثرية وليس فقط على الأفراد الأثرياء لتحقيق المساواة في الثروة بين الدول، على اعتبار أن التفاوت الكبير في الثروة بين الأفراد مردّه إلى بنية النظام ما بين الدولي. فَرْض ضريبةٍ كهذه سيَجعل حروباً كحرب غزة غيرَ ممكنة (حكومة راكمتْ ورَكّزتْ من الثروة ما بين الدولية ما يمكّنها من تقرير ما إذا كان شعبٌ على بُعد آلاف الكيلومترات سيحيا أو يموت)، وتَجعل مكافحة الاحتباس الحراري ممكنةً (لن يكون هناك حافز لاستخراج النفط، وبالتالي تسهيل الانتقال الطاقوي، وغيره من الموارد المنجمية التي تلوّث البيئة)، الهجرة التي يَشكو منها الأميركيون لن تعود حلماً بالنسبة إلى مواطني الدول الطرفية، وكذلك تجارة المخدرات الدولية لن تعود مجدية، والأهم أن مستويات اللامساواة الفردية المرتفعة داخل الولايات المتحدة لن تكون ممكنةً.

* باحث

 

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز١_الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هل حان دور سورية في حرب التدمير والابادة؟

  ميخائيل عوض تزداد مناسيب القلق على سورية ومستقبلها وتكثر التسريبات والتحليلات عن خطط اجتياحها. فاين تذهب الامور؟ وما هي المعطيات؟ نتنياهو اعلن حربا وجودية ...