| *صبحي غندور
تعيش المنطقة العربية مزيجًا من التحدّيات الإقليمية والدولية. لكن التعامل مع هذه التحدّيات بمنظار “محلّي” إقليمي فقط أو في ظلّ هيمنة المشاعر والرؤى الطائفية والمذهبية والإثنية، سيدفع بأوضاع المنطقة المنطقة العربية وجوارها الإسلامي إلى مزيدٍ من الانهيار على الجبهتين العربية والإسلامية معًا، وإلى تحقيق مكاسب ضخمة للقوى الساعية إلى فرض هيمنتها على أرض وثروات البلاد العربية والإسلامية.
إنّ ضعف المناعة في الجسد العربي هو الذي جعله قابلًا لاستقبال حالات الأوبئة التي تعشّش الآن في خلاياه، وأخطرها وباء الانقسامات السائدة داخل بعض الأوطان العربية وما بين الأوطان نفسها.
ولو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام في السنوات الماضية، لما كان ممكنًا أصلًا استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع كلّها.
وربّما يكون حاضر البلاد العربية اليوم هو أكثر الدلالات على مخاطر ما حدث في الربع الأخير من القرن الماضي، لجهة آثار ما حدث من حروب ما كان يجب أن تحصل (الحرب العراقية/الإيرانية ثمّ غزو الكويت) ومن معاهدات تسوية جزئية للصراع العربي/الإسرائيلي لم تحقّق سلامًا ولا عدلًا ولا حرّية.
العرب يدفعون الآن ثمن خطايا كبيرة حدثت في المنطقة، فضلًا عن أنّهم بلا بوصلة مرشدة لحركتهم الإقليمية والدولية ومتفَّق عليها بين الحكومات العربية.
وتستدعي هذه التحدّيات كلّها تصحيح التوازنات في المنطقة من خلال قيام تضامن عربي شامل وسليم يضع الأسس المتينة للعلاقات بين الدول العربية، وبينها وبين سائر دول الجوار.
ولن يتحقّق هذا التضامن العربي الفعّال ما لم تحصل رؤية عربية مشتركة لكيفيّة معالجة الأزمات المشتعلة عربيًّا في أكثر من مكان، ولكيفيّة التعامل مع دول الجوار الإسلامي.
ففي ظلّ غياب هذه الرؤية العربية المشتركة، حصل تمدّد النفوذ الأجنبي والإقليمي في المنطقة، وتعزّزت فرص الحروب الأهلية التي تحرق الأخضر واليابس معًا في معظم أرجاء المنطقة.
هي مسؤولية عربية مشتركة الآن في القمّة العربية اليوم بالمملكة العربية السعودية، أن تقف الحكومات العربية على أرضية واحدة من المواقف تجاه العدوّ والصديق والخصم، وبالتّالي الاتّفاق على تصنيف “الأعداء” و”الخصوم” و”الأصدقاء”. ومن المهمّ اعتماد المصلحة العربية المشتركة لا المصالح الفئوية كمعيار للتصنيف. فقد ثبت حتّى الآن من تجارب السنوات الثلاثين الماضية، أنّ المصلحة الفئوية تتحقّق آنيًّا ولفترةٍ محدودة، ثم ترتدّ إلى الوراء بحكم تداخل قضايا المنطقة وتداعياتها المتلاحقة وتأثيراتها الشاملة.
هذا الدرس قد انطبق على التسويات السياسية الانفرادية وعلى الحروب العسكرية الفئوية. وسيتكرّر الدرس نفسه في مسألة الموقف من أزمات دول مشرق الأمّة ومغربها.
وحينما يخرج موقف عربي موحّد من رؤية عربية مشتركة، فإنّ “النفوذ الإقليمي” سيتقلّص لصالح دعم هذا الموقف العربي لا أن يكون بديلًا عنه كما هو واقع الحال اليوم.
فهل كان من الممكن لواشنطن أو غيرها من عواصم دولية وإقليمية فاعلة في أزمات المنطقة الآن أن تصادر دور الإرادات الوطنية لو كان هناك حدٌّ أدنى من التضامن العربي والرؤية العربية المشتركة لصيغ الحلول المنشودة لهذه الأزمات؟ فغياب التضامن العربي هو المسؤول الأول عن تحوّل أطراف محلّية إلى وكلاء لإرادات خارجية.
إنّ استقلالية القرار الوطني في أي بلد عربي هي متأثّرة حكمًا باستقلالية القرار العربي عمومًا. وهناك الآن مزيج من الضغوط الأميركية والأجنبية تمارس لمنع حدوث الأمرين معًا. أي أن لا تكون هناك إرادة عربية مشتركة تعبّر عن قرار عربي مستقل، وإلى دفع الأطراف المحلّية أيضًا إلى مزيدٍ من الارتهان السياسي والأمني الذي يعطّل فاعلية أي قرار وطني مستقل.
التضامن العربي الفعّال على المستوى الرسمي بحاجةٍ أيضًا لتدعيم الوحدة الوطنية الشعبية في كلّ بلدٍ عربي، فبذلك التضامن الرسمي والوحدة الشعبية يمكن مواجهة مخاطر الهيمنة الإقليمية والدولية!
المؤسف في واقع حال الأوضاع العربية السائد منذ عقدٍ من الزمن أنّ الشعوب عجزت عن تحقيق التغيير في الاتجاه السليم الذي تأمل به، وأنّ حكومات عدّة دول عربية فاعلة تباعدت فيما بينها ممّا جعل الحكومات والشعوب ومصائر الأوطان مرهونة لإرادات خارجية.
هي عناصر ثلاثة سيطرت على الواقع العربي في العشرية الماضية، وكلٌّ منها يؤثّر ويتأثّر بالعنصر الآخر: غياب التضامن العربي، ثمّ زيادة حضور الدور الأجنبي في تقرير مصير الشؤون الداخلية العربية وتدويل بعض هذه الأزمات، والعنصر الثالث والأهمّ هو اندفاع بعض القوى المحلّية في أكثر من ساحة صراع إلى مزيدٍ من الارتهان للخارج بل إلى حدّ التسليم الكامل بما تقرّره واشنطن ودول أجنبية من أجندات سياسية لأزمات هذه الأوطان.
إنّ الإرادة الوطنية الحرّة هي الأساس لاستقلالية القرار الوطني. والقرار الوطني المستقل هو الذي يجلي صورة المصالح الوطنية ويجعلها هي المعيار في المواقف لا المصالح الفئوية لحكم أو فصيل أو حزب.
وحينما تنظر الأطراف العربية بعيونٍ عربية، وليس أجنبية، إلى ما يحدث على أرضها وحول أوطانها، فإنّها حتمًا ستصل إلى حتميّة التضامن العربي وأولوية المصالح الوطنية.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
(سيرياهوم نيوز ٣-خاص)