آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » ضياء العزّاوي… يا دمنا المسفوك من بغداد إلى غزة

ضياء العزّاوي… يا دمنا المسفوك من بغداد إلى غزة

 

ريما النخل

 

 

يقدّم معرض «شهود الزور» لضياء العزّاوي في غاليري «صالح بركات » جداريات ضخمة وتجهيزات طينية ونحتية تعبّر عن مآسي المدن العربية من بغداد وحلب والموصل إلى غزة. يعكس الفنان العراقي بصرخته الفنية مأساة الشعوب، مسجّلاً الذاكرة البصرية للألم والدمار، ومواجهاً تزوير التاريخ والهوية

 

معرض عملاق في بيروت لتشكيليّ عملاق هو ضياء العزّاوي (1939)، العراقيّ المنتمي إلى كل مآسي الوطن العربي، من بغداد إلى غزة مروراً بحلب وبيروت. يعبّر عنها بجدارياته الضخمة ومجسّماته الأرضية الطينيّة الهائلة حجماً وصنيعاً مدهشاً، مفجّراً فيها ألمه وحزنه على مدن الحضارة، بل مدن الإنسان العربي المنتهكة حياته وكرامته ووجوده وثقافته العريقة.

 

مأساة غزة الكبيرة

إلى مآسي مدن العراق (بغداد والموصل) وسوريا (حلب) ولبنان (مجازر صبرا وشاتيلا) تُضاف اليوم إلى أوجاع العزّاوي مأساة غزة الكبيرة: ينظر إليها رسماً بعيني ابنة ابنته من زوجته السويدية، وقد أرّقتها إبادة غزة، فراحت تسأل وتهتمّ وتطرح على جدها سؤال الهوية الذي لم تكن تطرحه قبلاً حتى وقعت المأساة.

 

«جنة المنسي» (أسماء 704 محتجين بالحبر الاسود مع تواريخ موتهم بالأحمر ـ 2023). بإذن من غاليري «صالح بركات»

«جنة المنسي» (أسماء 704 محتجين بالحبر الاسود مع تواريخ موتهم بالأحمر ـ 2023). بإذن من غاليري «صالح بركات»

أثناء افتتاح معرضه «شهود الزور» الأسبوع الماضي في غاليري «صالح بركات» سألناه عن تيماته، فأجابنا بأنّ تيمات المعرض ثلاث: الأولى تدمير العراق من قبل الاحتلال الأميركي، والثانية انتفاضة الشباب العراقي ضد القوى الفاسدة في العراق، والثالثة هي غزة والدمار والموت الحاصلان فيها، إنّما انطلاقاً من أسئلة حفيدته التي نظرت بعينيها إلى المأساة وأنجزت دفتر رسوم من وحي السؤال عن الهوية، وحتى ابنته كانت في حيرة من الهوية والانتماء.

 

شاهد غير محايد على الحرب

يريد ضياء العزاوي أن يكون، على الدوام، شاهداً غير محايد، مدركاً مسؤوليته بأن يخلّد الحدث العربي ويسجّله بالعمل الفني، لا بكونه عراقياً فقط، بل بصفته إنساناً عربياً وعالمياً يعرّي الظلم والمآسي بالذاكرة البصرية المرسومة مثل بيان فزع وغضب في آن معاً.

 

تقول سوزان سونتاغ في كتابها «الالتفات إلى آلام الآخرين» إنّ البشر محميّون عامةً من أهوال الحرب وجنونها، ولن يستوعبوا حقيقتها إلاّ إذا استطاع آخرون (فنانون، كتّاب، فلاسفة) جعلها مرئيّةً بما فيه الكفاية.

 

ولا أوضح من فن ضياء العزاوي لتظهير أهوال الحرب بأعمال قاتمة، صادمة، مؤثّرة وذات وقع في العين والوعي والوجدان.

من خلال تكوين المشهد الموصول للحياة والموت والعنف البشري، يعبّر العزاوي عن فظاعات الحروب والموت والدمار ومعاناة الإنسان في خضمّ كل ذلك. الأحجام الكبيرة (الجداريات) تمثّل كبر حجم المآسي والكوارث، بتأثير أيضاً من النقوش الجدارية الآشورية التي تلهم الفنان المنتمي عميقاً إلى حضارات بلاده الكثيرة والعظيمة والسحيقة في القدم.

 

البداية مع «الرؤية الجديدة»

كانت الذاكرة ولا تزال عنصراً ثابتاً في فن ضياء العزاوي، خصوصاً أنه درس الآثار في جامعة بغداد قبل دخوله عالم التشكيل. هكذا، استكشف الفنون القديمة والشعبية واستخدم الماضي لفهم الحاضر انطلاقاً من الثقافة البصرية الرافدينية، ثم انخرط خلال مدة الازدهار الثقافي في الستينيات ضمن الرؤية الرفضيّة واتخاذ الموقف التي طبعت جيله الفني مع أمثال اسماعيل فتاح، ورافع الناصري، ومحمد مهر الدين، وصالح الجميعي وهاشم السمرجي، رافضين فكرة الفن كتمثيل للعالم، ومحتضنين مفهوم الفن كمساحة خيالية تتشكل فيها حقائق سياسية وتأملات في المعاني الإنسانية.

 

«أطلال مدينتين»: الموصل وحلب» (800 × 600 × 5 سم «ـ 2020 ) بإذن من «صالح بركات»

«أطلال مدينتين»: الموصل وحلب» (800 × 600 × 5 سم «ـ 2020 ) بإذن من «صالح بركات»

من هنا انخراط العزاوي العاطفي والإنساني في الحوادث المأساوية من حروب ودمار ومجازر تهمّ المجتمعات العربية بأسرها، أو حتى مجموعات عرقية أخرى مثل الأكراد.

 

‏شعر العزاوي وآخرون في مجموعة «الرؤية الجديدة» في الفن العراقي بصلة وقرابة إزاء القضية الفلسطينية. ومن هنا اهتمامه القوي والمزمن بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فقد رسم منذ عام1975 الهجوم المأساوي على مخيم تل الزعتر، وصولاً إلى مجزرتي صبرا وشاتيلا عام1982 ، ناقلاً الألم الذي يمكن لكل ناظر إلى أعماله التعاطف معه والوقوف بأسى ومرارة أمام تلك الأفواه المفتوحة التي تُصدر صرخات الألم العالية.

 

مجرزة صبرا وشاتيلا

أنجز من وحي مذبحتي صبرا وشاتيلا «لسنا مرئيين بل جثث» بالحفر المائي والطباعة الحفرية وبالأسود. وهي ستة أعمال تبقي المذبحة حيّة وتعكس ــــ بواسطة التفاعل الكيميائي للحمض الذي يغلي ويأكل معدن اللوحة المحفورة ـــــ ذاك الألم الذي يخترق جسد الإنسان، يضطرم فيه وينهشه.

 

«شهود الزور» (أكربيك على كانفاس ــ 270 × 800 سم ـ 2019) بإذن من «صالح بركالت»

«شهود الزور» (أكربيك على كانفاس ــ 270 × 800 سم ـ 2019) بإذن من «صالح بركالت»

الألم والفجيعة ماثلان دوماً في أعمال العزاوي. ‏يضمّ معرض الحالي «شهود الزور» سلسلة من أعماله القديمة والجديدة التي استلهمها من التاريخ المديد والمشترك للعالم العربي: من بلاد الرافدين القديمة إلى زمننا المعاصر. يضيء على المآسي والمظالم والدمار وضحايا الظلم والعنف والاستبداد، مُطلقاً صرخة إدانة للشهود الذين زوّروا التاريخ والحقيقة، وساعدوا المحتلّين ضد شعوبهم وأوطانهم وما فتئوا يمارسون إدارة الفساد والتخريب.

 

حلب والموصل و«ليلة الإبادة»

وفي المعرض جداريات ضخمة تغطي جدران الغاليري، وتجهيز طينيّ ضخم في أرضها يظهر حلب والموصل المدمرتين، وأعمال نحتية معلقة، ورسوم عن «ليلة الإبادة» أنجزها الفنان في بداية الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، فضلاً عن دفتر الرسوم الجديد تحت عنوان «غزة: الألم الذي فتح عيني ابنتي» ويختصر أسئلة الابنة والحفيدة معاً. ‏رغم الأحجام الكبيرة والانطباع الذي تولّده أعمال الفنان العزاوي، إلاّ أنه لا يعتبر حجم اللوحة أو موادها مسألة قَبْلية «أي ذات تصوّر مسبق، فهو لا يفكّر بأنّه ستكون لوحتي بهذا الحجم».

 

يطلق صرخة إدانة للذين ساعدوا المحتلّين ضد شعوبهم وأوطانهم

 

 

يبدأ العمل على لوحته، فينتهي الأمر به إلى لوحة عريضة بحجم الـ «غيرنيكا» مثلاً. حين يرسم مجزرة فلسطينية، كمجازر تل الزعتر أو صبرا وشاتيلا، فإنه يستسلم لموضوعه الذي قد يكون أحياناً تسجيلاً صوتياً للمجزرة (ممرضة تروي مشاهداتها مثلاً)، فيروح يعبّر عنه بفرشاته وألوانه التي قد تُختزل غالباً إلى الأسود والأبيض والرماديّ ولطخات حمراء ترمز إلى الدم والموت.

 

الفن في مواجهة الظلم والموت والدمار

يرسم ضياء العزاوي موقفاً أخلاقياً من القضايا التي يعالجها. يمارس الفن كمواجهة للظلم والموت والدمار وتزوير الهوية. حين أنجز رسماً لقصيدة «تل الزعتر» لمحمود درويش، تعمّق في النص بصرياً ليبدع شيئاً مرتبطاً بالصوت أكثر منه بالنص.

 

من المعرض

من المعرض

‏نقف مدهوشين أمام التجهيز الضخم «أطلال مدينتين: الموصل وحلب» الذي يحتلّ مساحة نحو خمسين متراً مربعاً من أرضية الغاليري.

 

يجسّد العمل بمادة الطين ما تعرّضت له المدينتان، العراقية والسورية، في العقد الأخير من جَرْفٍ لمعالمهما الحضاريّة والحضريّة. تطغى صورة الضحية الباقية تحت الأنقاض جسداً سحقه الدمار والجدران المحطّمة فوق رؤوس البشر. والضخامة هي توقيع ضياء العزاوي الأثير عبر مسيرته، ولا يختلف تجهيزه لناحية الضخامة عن أحجام جدارياته المرسومة، التي تغطي بدورها جدران الغاليري.

 

الضخامة توقيعه

الحجم لدى العزاوي، تعبير وتجسيد وتأثير… انطباع يبقى طويلاً في النفس والذاكرة، فلا يمحى أثره بسهولة. وإلى الحجم، ثمة اشتغال على التفاصيل، على المكوّنات الدقيقة، سواء في الجداريات الكبيرة، أو في التجهيز الضخم المبهر بتنوّع أشكاله وتفاصيله «العمرانية»، وقد أضحت أطلالاً مختلفة الأجزاء للجدران والأبنية والقبب والأسوار المدمرة، وتلزم الزائر زيارات عدة للتأمّل في كل تفصيل ولتغطية التجهيز بأكمله بالنظر والاكتشاف. مؤثّر تجهيز «أطلال مدينتين» إلى آخر حدّ، ولعلّه فريد على مستوى الفن العالميّ ولا يُرى له مثيل في الكاتالوغات المنشورة.

 

‏لعلّه يمكن وصف معرض ضياء العزاوي بـ «قوة التأثير». إنّه التأثير المتأتّي من المضمون أولاً، ومن القيمة الفنية ثانياً، ومن التقنيات والأساليب والمواد المستخدمة ثالثاً، إنّما أيضاً من حجم الأعمال التي لا تنشد الضخامة من أجل الضخامة، بل إنّ ضخامتها فرضتها المواضيع وحاجة التعبير لدى العزاوي الذي باتت له منذ زمن مكانة فنية مميزة في العالمين العربي والعالميّ.

 

* «شهود الزور»: حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ غاليري «صالح بركات» (كليمنصو)

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حرف (القاف) بين قوّة الأمّة العربيّة وضعفها

        قوّة الأمّة العربيّة   ١ ــ القاف من الأحرف الجهريّة ، شديد التفخيم من أقدم الأصوات العربيّة ، يعبّر عن القوّة ...