آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » طفولة في زمن صدام حسين والعقوبات الأميركية | حسن هادي: أوديسة عراقية

طفولة في زمن صدام حسين والعقوبات الأميركية | حسن هادي: أوديسة عراقية

 

شفيق طبارة

 

 

في عراق صدام، كانت الكعكة رمزَ ولاءٍ إجباري. يروي فيلم «مملكة القصب» رحلة طفلة تُكلّف بصنع «كعكة الرئيس» وسط الحصار والجوع، لتتحوّل المهمة إلى مواجهة بين البراءة والخوف. سينما تُعيد كشف وجوه السلطة، حيث يصبح الفرح أمراً مفروضاً، والنجاة فناً من فنون المقاومة.

 

 

عُرض فيلم «مملكة القصب» أو كما يُعرف بـ«كعكة الرئيس» (The President’s Cake)، للمرة الأولى في «أسبوعي المخرجين» في «مهرجان كان السينمائي» الأخير وفاز بجائزة الجمهور. وفي عطلة نهاية الأسبوع الختامية، مُنح جائزة الكاميرا الذهبية المرموقة في المهرجان لأفضل فيلم أول. هذا إنجاز رائع لكل باكورة روائية، ناهيك بكون هذا الشريط أول فيلم يمثل العراق في تاريخ المهرجان الطويل.

 

مرشّح للأوسكار

الفيلم الذي رشّحه العراق ليمثله في جوائز الأوسكار، يستمدّ قصته من تجربة مخرجه الشخصية، خصوصاً طقوس الاحتفال بعيد ميلاد صدام حسين التي كانت إلزامية لكل مواطن. موقف يتناوله المخرج حسن هادي بروح الدعابة المتشائمة: كعكة تُصنع تحت التهديد، وطفلة تُحمّل مسؤوليةً وطنية، ومجتمع يُجبر على الاحتفال بينما ينهار من الداخل.

 

بعد يومين، يحتفل صدام حسين بعيد ميلاده الثالث والخمسين، في احتفال وطني يُطلب فيه من كلّ فصل في كلّ مدرسة في العراق أن يُقدّم كعكة احتفالية بهذا اليوم.

 

في إحدى المدارس الابتدائية في الأهوار جنوب البلاد، تقع القرعة على لميعة (بنين أحمد نايف) ـــ فتاة في التاسعة من عمرها ــ لتكون مسؤولة عن صنع الكعكة. ما يبدو مهمةً تافهة في أماكن أخرى، يصبح مسألة حياة أو موت في بلد تحت الحصار والحرب ويعاني من الندرة والمشكلات السياسية والاجتماعية.

 

رحلة في الأهوار: طفولة تواجه العبث

تبدأ لميعة رحلتها نحو المدينة مع جدّتها بيبي (وحيدة ثابت)، في محاولة يائسة للحصول على المكونات الأربعة: بيض، ودقيق، وسكر، زيت. تصادف لميعة زميلها في الصف سعيد (ساجد محمد قاسم)، المُكلّف بإحضار الفاكهة. وكما يحدث دوماً، يختفي الكبار، ويبقى الأطفال وحدهم في مواجهة العبث، ويضطرون إلى الاعتماد على براعتهم الطفولية لتنفيذ المهمة.

 

 

«مملكة القصب» أول فيلم عراقي يُصوَّر داخل البلاد ويتناول بشكل مباشر عام 1990، حين كان صدام حسين يحكم بقبضة حديدية، والعراق يرزح تحت وطأة عقوبات دولية خانقة أدّت إلى فقر مدقع ونقص حاد في المواد الغذائية.

 

في تلك اللحظة التاريخية، وبينما كانت الطائرات الأميركية تقصف البلاد في ما عُرف بحرب الخليج الثانية، يقدم العراقي حسن هادي أوديسة صغيرة، لكنها تحمل كل ملامح الرعب الكبير. قصة تبدو سخيفة، لكن مبنية على وقائع مرعبة، إذ يصبح الامتثال شكلاً من أشكال النجاة، والطفولة ساحة مواجهة مع الغباء السلطوي.

 

بين البراءة والصداقة الإنسانية، تتناوب الابتسامات وتلميحات الخطر لدى المشاهد، بينما تخوض لميعة وسعيد مغامرات أشبه بمغامرات ديكنزية للحصول على المكونات، تارة عبر التحايل وطوراً من التبادل وحتى اللجوء إلى السرقات البسيطة.

 

الفيلم متجذر بعمق في تاريخ البلاد اليومي، من المدارس إلى الأسواق الصغيرة الكثيرة، والشوارع المرصوفة بالحصى، وسيارات الأجرة المتهالكة، والمنازل المبنية من القماش والطوب اللبن والقصب، إلى تحليق الطائرات الصاخبة والمخيفة. يتحكم المخرج بالكاميرا وتوجيه ممثليه، وجميعهم تقريباً من غير المحترفين، الذين يبدعون بمهارة في خلق إنسانية نابضة بالحياة وحادة.

 

جماليات خشنة… وألوان الحياة تحت النار

يجتاز «مملكة القصب» اختبار العين. يحمل خشونة بصرية زاهية الألوان. هناك اللون الأحمر الداكن لـ «هندي»، ديك لميعة وهو يطلّ من حقيبة مخصّصة له، وهناك الزخارف البيضاء والزرقاء التي تزين السيارات. وبهذه الطريقة، يجمع الفيلم بين جمالية تكاد تكون حالمة، خصوصاً في منازل الأهوار العائمة والشخصيات التي تتحرك في زوارق تحت سماء مرصعة بالنجوم. هناك لقطات تبدو كأنها مأخوذة من فيلم وثائقي، وهذا ما يمنحه خشونةً خاصة في مشاهد المدينة.

 

التأنّق الأسلوبي لا يخفف من حدة الفيلم السياسية، بل يضاعفها

 

 

لكن هناك أيضاً رقة: في لفتات الجدة، وفي فكاهة «هندي» غير المقصودة، وفي سذاجة الأطفال. يتجنب الفيلم الصورة النمطية المصفرّة لبلادنا، إذ نادراً ما كانت فيه الألوان أكثر إثارة للاهتمام من الرمال والزي العسكري. وفي لقطاته الواسعة والطويلة، يبتكر الفيلم موسيقاه الخاصة من دون نوتات أو نغمات إيقاعية، عبر موسيقى صامتة، عذبة، وحساسة، كالوميض.

 

الديكتاتورية كظلّ صامت في كل لقطة

يتعمّد الفيلم أن ينسج جمالياته البصرية بعناية تتناقض بوضوح مع قسوة الواقع الذي تعيشه شخصياته، ما يُتيح لوحشية الدكتاتورية أن تتسلّل كخلفية طاغية، صامتة أحياناً، لكن حاضرة في كل زاوية في أيقونات النظام، وصور صدام، والجداريات، والمسيرات التي تتخلل المشهد اليومي وتخترق النسيج البصري بلا استئذان. وما يثير الدهشة أنّ هذا التأنّق الأسلوبي، بلحظاته المرحة وفكاهته السوداء، لا يخفف من حدة الفيلم السياسية، بل يضاعفها. فالعنف لا يغيب عن عالم لمياء، من هدير الطائرات النفاثة فوق قريتها، إلى الجنود الجرحى الذين يعبرون طريقها، يظل الخوف خلف كل لقطة.

 

 

يبدأ حسن هادي مسيرته بفيلم يبدو أنه صُنع بأيدٍ عارية، وبمشاعر خام. اللافت أنّ فيلمه ليس مجرد رصد للحياة اليومية القاسية للشعب العراقي، بل هو مديح للمغامرة الأخوية والصداقة والفقد. يستخدم المخرج الحذف والاستطراد، وتشويقاً معيناً، ومشاهد مطوّلة ليتذوق المشاهد متعة الحكاية، جامعاً بين الواقعية والغنائية والكوميديا الاجتماعية والسياسية والعاطفية الساخرة، والدراما. يسخر الفيلم أيضاً من الأمراض المتفشية في البلاد، جمود الشرطة، وإحباط وفساد بعض الرجال، والفقر المستشري. لا يقع المخرج في إطار الإدانة الاجتماعية، بل يُصوّر الحياة بأقصى قدر من الحميمية، ويتسلل إلى شقوق ذلك الوجود اليومي.

 

نعم، هناك مشاهد مُصطنعة، وبعض التقلبات في الحبكة مُتوقعة بشكل مُفرط، ولحظات تطغى فيها الرسالة على القصة. لكن هذا أمرٌ مُغتفر، لأن وراءه حقيقة. أشجع ما في «مملكة القصب» أنه يستهدف الجميع: نظام صدام، والأمم المتحدة، والغرب، والكبار الذين يصمتون خوفاً، والمجتمع الفاسد. في فيلمه، لا يوجد أناس طيبون، هناك ناجون، ومتواطئون بدافع الضرورة، ومعلمون يتبعون الأوامر لأنهم أيضاً خائفون. بشكل عام، يُوظّف الفيلم نقاط قوته على أكمل وجه، لكنه يُبالغ في حدّته بعض الشيء، مُحمّلاً كل مشهد بزخم زائد، مُفوّتاً فرصة تطبيق مبدأ «الأقلّ هو الأكثر».

 

طفلة تحمل البيض… كمن يحمل الديناميت

يحدث كلّ شيء بسرعة في الفيلم، رغم أنه يمشي ببطء ولا يغطي سوى بضعة أيام من حياة لميعة، لكن قبل أن نتركها تعلق في ذهننا صورتها وهي تحمل كيساً من البيض كما لو أنّها تحمل الديناميت. كلّ خطوة تخطوها تبدو كقنبلة موقوتة. كلّ نظرة من شخص بالغ هي خيانة محتملة. لكنها تواصل مسارها، لأنه عندما تكون في التاسعة من عمرك ويطلب منك العالم أشياء لا يستطيع الكبار فعلها، كل ما يمكنك فعله هو الاستمرار في المشي، والدعاء ألا تسكر بيضة.

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

فيلم “المخدوعون” في فعالية أيام فلسطين السينمائية حول العالم

أعلنت المؤسسة العامة للسينما عن مشاركة فيلم “المخدوعون” في فعالية “أيام فلسطين السينمائية حول العالم”، والذي تنطلق فعالياته اليوم ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥، ضمن سلسلة ...