| عبد المنعم علي عيسى
لا شك في أن اللحظة التي استولدها فجر يوم السبت 7 تشرين أول الجاري سوف تحفر عميقاً في الذهنية الإسرائيلية وفي ذاتها المجتمعية، فمع خروج البيان رقم 1 الصادر عن حركة «حماس» وأعلنت فيه عن تمكن المجاهدين من «اجتياح الخط الدفاعي للعدو، وتنفيذ هجوم منسق متزامن على أكثر من 50 موقعاً في فرقة غزة والمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال»، كان الفعل كافياً لـ«كنس» الكثير من المعطيات والكثير من الوقائع، وهو باختصار كان أشبه، عند الكثيرين، بمن يروي «حلماً» شاهده بالأمس، لكن الساعات التي تلت صدور البيان كانت قد رسخت واقعاً يفوق الحلم، باختصار أيضاً كان كل ما يجري يكشف، نعم يزيح الغبار فحسب، عن حقيقتين اثنتين، أولاهما أن هوية الشعب الفلسطيني، وإرادته، عصيتان على محاولات التهشيم والتذويب، وثانيهما أن العنجهية الإسرائيلية التي تمظهرت خلال السنوات العشر الماضية بسلوكيات توحي بأن القضية الفلسطينية باتت من الماضي، أو أن «العصر الإسرائيلي» قد طواها، تلك العنجهية لم تكن إلا دليلاً على ترهل عام ضرب الكيان فأصابه بنوع من الهذيان الذي راح يتخذ أشكالاً شتى حتى بدا أن الشعور بـ«فائض القوة» خادعاً لدرجة باتت مفاعيله تشكل خطراً على الكيان برمته.
على ضفتي الصراع، مما يمكن رصده خلال الأيام الأربعة الماضية، بدت المقاومة متماسكة بدرجة لافتة الأمر الذي يمكن لحظه من خلال إدارتها الناجحة للعمليات وإمساكها بزمام المبادرة تماماً، ولربما ظهر ذلك، أكثر ما ظهر، في قرارها الذي اتخذته بعد مضي نحو أربعين ساعة على بدء المعارك والقاضي بـ«استبدال» المقاتلين الذي خاضوا غمار الموجة الأولى، وتلك عملية تحسب لجيوش تمتلك قدراً كبيراً من التخطيط بعكس التنظيمات والفصائل التي تزج بمقاتليها على طريقة «الانغماسيين» الذين يعتبرون بمجرد دخولهم أرض المعركة «ورقة محروقة»، هذا بالتأكيد، جنباً إلى جنب عوامل أخرى أكثر أهمية من نوع قوة الحق ومشروعية الحرب، أتاح تحقيق مكاسب بكل هذا الحجم، فإسرائيل تعرضت، فقط في غضون اليومين الأولين، لخسائر تفوق تلك التي خسرتها في عدوان حزيران 1967، وتفوق أيضاً تلك الحاصلة إبان عدوانها على لبنان صيف العام 1982، بل تبلغ ثلث الذي خسرته خلال حرب تشرين الأول 1973، وعلى الضفة الإسرائيلية بدت القيادتان، السياسية والعسكرية، في حال لا تمكنها من امتصاص الصدمة، بل لربما ظهر العديدون ممن هم على رأس هرم تلك القيادات بمظهر من لا يريد تصديق ما يجري، وفي السياق بدا رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، الذي راح يتصرف منذ إعلان حكومته الأخيرة أواخر العام المنصرم، على طريقة من يضع «رداءه» تحت «الشجرة» العربية التي راحت ثمارها تتساقط وهو حريص على ألا يضيع شيئاً منها، نتنياهو هذا وجد نفسه، يوم 7 تشرين أول الجاري، في الوضعية التي وجدت غولدا مائير فيها نفسها قبل نحو خمسين عاماً.
الآن، على ضوء التطورات الحاصلة على مدى الأيام الأربعة الماضية في سياق عملية «طوفان الأقصى»، يمكن القول إن تغييراً كبيراً حصل على المفاهيم والمصطلحات المحددة لمعادلات القوة الناظمة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتلك سوف تحتاج إلى وقت طويل قبيل أن تستنسخ أخرى جديدة لها، لكن الثابت الذي لا شك فيه هو أن سيلاً من تلك المفاهيم والنظريات السابقة قد جرى «كنسه» إلحاقاً به بنظائر له كُنست خريف العام 1973، وإن كانت «السياسات» العربية التي لم يكن أداؤها بمستوى أداء السلاح حينذاك، هي التي أتاحت للكيان استعادة بعض ما جرى كنسه، لكن الفعل هنا يبدو ماضياً نحو اتجاهات أعمق، صحيح أن الوقت قد يطول قبيل أن نلمس المتغيرات التي حدثت بفعل «طوفان الأقصى» لأن الوقت الإسرائيلي الآن لا يملك «ترف» مراجعة ما جرى، ولأن الأولوية هي لترميم «الهيبة» واستعادة «الردع» اللتين انحدرتا إلى قيعان لم يكن في الحسبان أن تصل إليها في يوم من الأيام، لكن الصحيح أيضاً، والأخطر، هو ذلك الزلزال السياسي الذي سيندلع فور الإعلان عن وقف إطلاق النار، وفيه ستكون «أجرانات» نتنياهو أخطر بكثير من تلك التي واجهت حكومة غولدا مائير بعد نحو شهر من إعلان وقف إطلاق النار شهر تشرين الأول من عام 1973، والأخيرة قادت خلاصاتها، من حيث النتيجة، إلى نسف «سطح» سياسي – عسكري بالكامل ليحل محله نظير «أكثر واقعية» كان قد تمثل بوصول إسحق رابين الذي بدا مستوعباً للدرس الذي يقول إن من الصعب على إسرائيل الاعتماد على التفوق العسكري إلى ما لا نهاية، ثم يقول إن معادلات القوة متغيرة بفعل عوامل خارجة عن السيطرة في بعض الأحيان.
ثمة احتمالات أخرى قد تكون بعيدة الوقوع الآن، لكن كفتها قد ترجح إذا ما تمادت تل أبيب في استخدام قوتها النارية ضد غزة وصولاً إلى التفكير بتدميرها بشكل كامل، وهو أمر محتمل قياساً للأوجاع التي تركها أبناؤها في أصلاب المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين، عندها قد يصبح فعل تمدد النار لتتسع رقعتها أمرا شبه حتمي، ليصبح لزاماً الانتقال من «طوفان الأقصى» إلى «طوفان نوح».
سيرياهوم نيوز1-الوطن