جاسم المحمد علي
في ضمن التطورات التي تعيشها ساحة المعركة في فلسطين ولبنان بين المقاومة والكيان الصهيوني والأميركي، جاءت إطلالة السید حسن نصر الله في ذكرى يوم الشهيد، مفعمة بالكثير من الدلالات والإشارات التي يمكن الاستلهام منها تصورات استراتيجية تطبع المرحلة القادمة، وتضعها في ضوء محددات أساسية للتعامل مع مفاصل الصراع الوجودي بين محور المقاومة ومحور الاستكبار العالمي، وهي منهجية ومهمة وعديدة، لكن من أبرزها:
أن المعركة الحالية أثبتت أن المحور كمّل حزامه المقاوم في المنطقة، وانتقل به في وجوده الميداني إلى التفعيل الشامل على صعيد العمق والامتداد. وباتت أدبياته الاستراتيجية حول بلورة «وحدة الساحات» التي لطالما أعلن عنها قادته في سياق تقرير اشتراك المصير في المنطلقات والأهداف بين الشعوب العزيزة والكريمة، باتت جادة وفاعلة، وخرجت من كتم التنظير أو التطبيق الجزئي إلى حيّز العملانية والتطبيق الكلي.
توثيقاً لما سبق، علينا أن نعاين الساحة اليوم، حيث لم تعد فلسطين في «طوفانها» تقاتل وحدها من أجل الدفاع عن مقدّساتها، ولم يبق حزب الله منفرداً في تحمّل عبء المواجهة والتصدّي لها في سبيل الحفاظ على تحرّره وسيادته أمام الصهيوني المتسلّط، كما أن المقاومة العراقية واليمنية أصبحت جزءاً أساسياً بارزاً في توازنات الردع في مقارعة الاحتلال في ميادين المنطقة. فالمحور، بتركيبته الجمعية، صار حاضراً في هذه الساحات المتنوعة بصورة متناغمة ومنسجمة، وهذا الاتحاد والترابط في فعل المحور ومناشطه الدفاعية والاستراتيجية، لا يقف عند هذه الحدود المتداولة، لأن هذه الحدود هي واضحة لدى العقل المحلي والإقليمي والدولي، وتتموضع عنده في موقع البديهيات المسلّمة والمنبثقة من صميم تنشئة المحور وفلسفته الوجودية. لكن ما يجدر التنبيه إليه في سياق هذه الظاهرة البديعة لفكرة «وحدة الساحات»، هو أن مبادئ المحور تنظر إلى حماية المستضعفين في أرجاء العالم بوصفها التزاماً عقائدياً وإنسانياً وأخلاقياً، لا يقبل الانحباس في مجرد الدعم اللوجستي، بل ينعتق من كل أشكال التقييد الجغرافي والتاريخي والسياسي وحتى الأيديولوجي، وينساب في ميدان الاندماج التوحيدي الواعي على صعيد التخطيط والهمّ والشعور والفعل والتضحية؛ تجسيداً لرؤية الأمة الواحدة ومقتضياتها الفكرية والحركية والروحية في الوجود والمشروع والأهداف.
هذه الخصوصية العميقة لهوية المحور، ينطلق منها نتيجٌ أساسي في قادم المراحل اللاحقة في إدارة ملف الصراع مع العدو وذيوله العميلة في المنطقة، وهو نتيجٌ تفهمه الأنظمة العميلة في المنطقة بصورة جيدة، وتخشاه، وتسعى إلى محوه وتفتيته بقدر ما تتمكّن، لكنها لا تستطيع؛ لأنه أكبر من قدراتها واستعداداتها، وهو: أن المعارك المستقبلية التي سيخوضها المظلومون والمستضعفون في العالم ضد أنظمتهم المطبّعة والذليلة، لن يخوضوها وحدهم وبأدواتهم المحدودة، بل إلى جانبهم المحور بكل مكوناته الأساسية، وهو محور يرى أن مساندته للمحرومين ليست من مقتضيات الحضور الاستراتيجي في المنطقة فقط، بل من مستوجبات منطقهم العقائدي والأخلاقي والحضاري في مقارعة الاحتلال والاستعباد والإذلال، حيث كلّ مكوّن من المحور سيساهم بحصته النضالية التي تتحدد من وحي موقعه الجيوسياسي، وقدراته المتاحة، وظروفه الموضوعية. لكنها مساهمة ليست على شاكلة الخفاء، أو الإجمال، أو اللوجستي، بل مساهمة ميدانية حيّة وفاعلة من شأنها أن تغيّر الأوضاع القائمة من جذورها، وتقلب وضع المحاور، وتصنع قواعدَ جديدة في ظروف المنطقة.
هذه الحقائق المدجّجة بالتصديق الخارجي، كما هي ماثلة في أنموذج معركة «طوفان الأقصى»، هي ما تجعل أنظمة الممالك والمشيخات – وفي مقدمتهم قادة المشروع التطبيعي في المنطقة – مذعورةً أمام تطوّرات المحور وتصاعد قوته، ومندفعةً في دعم الكيان الصهيوني والالتصاق به، لأنّها تعتقد أنّ هذا الكيان هو الضمانة الوحيدة في حفظ وحدة سلطتها واستقرارها أمام حركات شعوبها الثورية والتغييرية. لذلك نشهد كيف أن النظام السعودي (مثلاً) حريصٌ بشدة على استمرار النشاط التطبيعي وتوسّعه في العالم العربي والإسلامي؛ لأنه يرى أن انسحاب الدور الأميركي من مساحة الحروب بالوكالة عنه، واقتصاره في حماية الأنظمة الخليجية والعربية على التدريب والتسليح، هو تهديدٌ خطيرٌ له ولغيره من الديكتاتوريات العربية أمام وجود المحور المقاوم وتمدّد حضوره المتعدد الأذرع في المنطقة، ولا يمكن استعاضته إلا بتكريس الوجود الصهيوني على صعيد السياسة والعسكر والاقتصاد، حتى يؤدّي دوراً احتضانياً لأنظمة المنطقة وحمايتها من مخاطر الحركات الثورية الباحثة عن التحرر من الجور والاستبداد، والمسنودة لوجستياً وميدانياً من محور المقاومة.
في هذا السياق، تحتاج الأنظمة المعادية لشعوبها المظلومة والساعية لاسترداد عزّتها وكرامتها إلى أن تعيد حساباتها في كيفية تعاملها مع قضايا المنطقة ذات الصلة بالصراع بين محورَي الاستكبار والمقاومة بصورة عامة، ومع مجتمعاتها المظلومة من جهة خاصة؛ لأن محور الشعوب في صراعه مع الجور والطغيان لطالما أكدت له السنن التاريخية والتجارب الإنسانية أنه هو المنتصر والمتحرّر في نهاية المطاف.
وبات من الضروري التذكير بأن الشعوب لم تعد تتعامل مع ذاتها باعتبارها فقيرة في وجودها وإمكاناتها بحسب المعادلات القائمة، بل هي تنتمي إلى محور عريض وناهض وقوي تشكّل من نبع دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين في سبيل أن يدافع عن شعوب الأمة، ويساندها في انتزاعها لحقوقها وحرياتها، ويدعمها في وصولها إلى سيادتها واستقلالها. وهذا المحور وصل في تنفيذ فلسفته وأهدافه في وقوفه مع المستضعفين إلى حدّ النضج والاستواء والفعليّة. لذلك، إنّ شعوب الأمة على موعد قريب مع معادلات جديدة لموازين القوى هي حالياً في طور التشكّل والتبلور، لكنها من جهة دورها الإعدادي تحتاج إلى تجهيز بيئتها التغييرية التي يمكن أن تسمح لها بالنهوض في مواجهة الظلم، ليجد المحور أرضيةً خصبة لنصرتها وتتميم احتياجاتها، كما شهدنا تمثّلات هذا الدور البنيوي للمقاومة في سوريا واليمن، وبصورة فاقعة اللون في «طوفان الأقصى» في غزة فلسطين.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية