آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » عادات مسقط رأس كونفوشيوس وتأثيره (2) … إذا جرت العناية بالوالدين حتى النهاية وخدمة أرواح الأسلاف عادت الفضيلة إلى سموها

عادات مسقط رأس كونفوشيوس وتأثيره (2) … إذا جرت العناية بالوالدين حتى النهاية وخدمة أرواح الأسلاف عادت الفضيلة إلى سموها

المؤلف وانغ هاو

 

لا تتعدى مساحة منطقة «زو لو» دائرة بقطر 100 كم، إلا أنها تتمتع بنفوذ ثقافي سام على امتداد 25 قرناً حتى يومنا هذا، وتحتضن المنطقة العديد من القرى التي ولد فيها كبار فلاسفة الصين. فإضافة إلى تشوفو، مسقط رأس كونفوشيوس، وليس ببعيد عنها تقع «زوشيان» مسقط رأس الفيلسوف منغ زه منشيوس تلميذ كونفوشيوس، كما ولد يان هوي تلميذ كونفوشيوس المفضل ومعاصره، وفي مكان قريب، ولد أيضاً تلميذ مشهور آخر لكونفوشيوس، وهو «زونغ شين»، الملقب بزونغ (دزه وغيرهم من فلاسفة ومفكرين صينيين يعطون لهذه البقعة الأرضية صفة القدسية).

 

وتختلف أحاسيس سكان منطقة تشوفو مسقط رأس كونفوشيوس لكونهم ولدوا في هذه المدينة. ويحملون أنفسهم مسؤولية الولادة فيها، فحتى عامة الناس والمزارعين في الحقول والبائعين الجوالين يتملكهم شعور قوي باحترام الذات والسمو، معتقدين أن تشوفو أرض القديسين. ويهتم هؤلاء بشكل عميق بآداب التصرف والسلوك، وهناك قائمة طويلة للغاية من القواعد المستمرة منذ 2500 سنة التي تنظم مثلاً ترتيب الجلوس في مآدبها للطعام أو الشراب، الأمر الذي غالباً ما يجعل الغرباء يشعرون بالارتباك.

 

دوّن تلامذة كونفوشيوس وتابعوه أهم أربعة كتب تحتفظ بالكلاسيكيات الكونفوشيوسية في الصين، وهي «كتاب الحوار لكونفوشيوس» الذي شارك في كتابته كونفوشيوس وتلامذته؛ وكتاب «منشيوس» الذي كتبه منشيوس وتلامذته وكتاب «العقيدة الوسطى» الذي كتبه «زه سي» حفيد كونفوشيوس؛ وكتاب «العلم السامي» الذي كتبه «زونغ زه». ولا يقل تأثير هذه الكتب الأربعة في عقل المواطن الصيني عن أثر التوراة والإنجيل والقرآن لدى أتباع الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام.

 

ولدت في قرية صغيرة قريبة من مكاني ولادة كونفوشيوس ومنشيوس. وتترك هذه البيئة معنى كبيراً في حياتي وتأثيراً عميقاً على شخصيتي ومثلي. ويتبع سكان قريتي جميع عادات وأساليب العيش المستمرة لألفي عام، وأذكر أيام طفولتي عندما كنا نستقبل العام الجديد بالركوع بخشوع وهيبة أمام المسنين من أجدادنا الأحياء، ونقدم البخور في مدافن العائلة لمن رحل منهم. أما الآن، فتنظر الحداثة الحالية للركوع على أنه عادة بالية عفا عليها الزمن.

 

لدى كل أسرة في مدينتي لوح بأسماء أجدادهم لإحياء ذكرى أسلافهم وتعبدهم، وقد امتلكت كل عائلة في العصور القديمة معبداً عائلياً يتعبد فيه جميع أفراد العائلة أسلافهم.

 

كثيراً ما يعجز الإنسان المعاصر عن فهم أهمية احترام الأسلاف لأنه يعيش في عصر التنقل ويغادر مسقط رأسه آلاف الكيلومترات بحثاً عن عمل، أو قد يسافر إلى بلدان أجنبية. لقد شعرت دائماً أن الفراغ والقلق والألم الذي يعاني منه الإنسان المعاصر مرده عدم وجود ملجأ تلوذ به أرواحنا، ولا تسندنا دواخلنا. لكن الأمر كان مختلفاً في الصين القديمة، حيث يوفر مسنو العائلة الكبيرة وشيوخها الرشد والحماية، فحتى لو أصبحت مشهوراً وحققت مكانة عالية جداً، فإن مرجوعك في النهاية إلى مسقط رأسك لتشارك في بنائه عندما تكبر بدلاً من أن تقضي وحيداً أو في دار رعاية مثل اليوم.

 

لكل عشيرة في بلدتي مدفنها وهو عبارة عن غابة في قطعة أرض ليست هذه الغابة مكاناً لزراعة الزهور والأشجار، ولكنها مقبرة باسم العشيرة. ولعل «غابة كونج»، المقبرة التي تضم رفاة كونفوشيوس وذريته التي بدأ إنشاؤها في عام 479 قبل الميلاد المقبرة العشيرية الأكبر في تاريخ البشرية إذ تبلغ مساحتها الإجمالية مليوني متر مربع، حيث يرقد كونفوشيوس ونسله بسلام.

 

مقارنة مع إنسان اليوم الذي لم يعثر على مغزى للحياة ولا مستقر للروح، وهو يهاب الموت، كان أبناء أرض «زو لو» يحسون بالطمأنينة، فهم سيوارون الثرى بعد حياة من النضال مع أسلافهم، ويؤمنون أن العودة إلى الأجداد ستجلب السلام والسكينة ولم الشمل مع أسلافهم، وبما يبارك أحفادهم أيضاً.

 

قبل 2500 عام، قال «زينغ تسان» أحد تلاميذ كونفوشيوس: «إذا جرت العناية بالوالدين حتى النهاية، وخدمة أرواح الأسلاف على الدوام عادت الفضيلة عند الناس إلى سموها الأصلي». وفي رأيي إن المعنى الأعمق لهذه الجملة هو أنها تمكن الناس من فهم مهمتهم ومعنى حياتهم، وفهم أنهم ليسوا وحيدين في حياتهم وما بعدها، لأنهم سيكونون مع عوائلهم وأجدادهم معاً. هذا المفهوم مهم جداً للشعب الصيني الذي لا يمتلك معتقدات دينية وإيمان الشعب الصيني بالأسلاف قريب جداً من الإيمان بالله في أجزاء أخرى من العالم.

 

ولا تقتصر الطقوس على احترام كبار السن وتقديم القربان إلى الأجداد في بلدتي، إذ كان لتأكيد كونفوشيوس على «اللياقة» والكياسة تأثير على الناس، وهو ما ينعكس أيضاً في تبادلات المجاملة اليومية. أتذكر أنه في طفولتي كان الجميع يمارسون «معايدة الأقارب» ويزورون أقاربهم وأصدقاءهم للاحتفاء بالسنة الجديدة. ويرتدي الجميع أنظف الملابس ويحملون سلة كبيرة من القصب مليئة باللحوم والوجبات الخفيفة والعصائر والفواكه لتقديمها خلال الزيارة. وكانت الأشياء الموجودة في السلة الكبيرة أفضل ما لدى الأسرة من الطعام الذي أفضل أن أعطيه لأقاربي وأصدقائي بدلاً من أن آكله بنفسي. وبالأخلاق نفسها، يأخذ الأقارب والأصدقاء بعضاً مما تحتويه سلة الهدية، ويتركون بعضها ليأخذها الضيف، لكنهم يضعون أيضاً أفضل ما لديهم للضيف كرد للهدية.

 

قبل 2500 سنة مضت، قيل إن كونفوشيوس تقبل 3000 من التلاميذ، وفي الواقع، قد يكون العدد أكثر من هذا بكثير. دعا كونفوشيوس إلى «التعليم دون تمييز»، لذلك كان من بين تلاميذه النبلاء والعامة والفقراء. وكانت الرسوم الدراسية التي يتقاضاها عادة مجرد قطعة من اللحم المجفف فقط، لأنه لم يرد أن يحرم أي شخص من التعلم لعدم قدرته على تحمل الرسوم الدراسية.

 

حتى يومنا هذا، إذا اتبعت الآداب التقليدية لتحصل على العلم من معلم، عادةً ما تحضر قطعة من اللحم المجفف إلى المعلم، وهو رمز للتعليم الكلاسيكي الصيني. فإن تبادل الكرم والضيافة واحترام كبار السن وتقدير المعلمين من العادات التي استمرت لأكثر من ألفي عام، وهي أفضل الطرق لتخليد ذكرى كونفوشيوس.

 

سيرياهوم نيوز1-الوطن

x

‎قد يُعجبك أيضاً

في وداع رسمي وشعبي وفني… اللاذقية تحتضن جثمان المخرج السينمائي الكبير عبد اللطيف عبد الحميد

من دمشق التي أحبها بكل تفاصيلها وحقق فيها كل أحلامه، انطلق موكب المخرج السينمائي الكبير عبد اللطيف عبد الحميد إلى مدينته اللاذقية التي كانت ملهمته الأولى ...