عبد المنعم علي عيسى
قد لا يختلف اثنان في توصيف العام 2022 الذي طويت صفحاته قبل أيام، بأنه كان الأسوأ من بين سني الأزمة السورية التي قاربت أن تتم «ربيعها» الثاني عشر، ولربما كانت الواقعية تقتضي أن نضيف إنه، أي ذلك العام، كان من الخطورة بحيث أصابت تداعياته «لب العظم» السوري الذي وإن لم ينكسر، لكنه بدا شبه معطوب مما يمكن تلمسه في حركة «العضلات» التي راحت تبدي تعبها وضعف استجابتها لما يصدر عن المنظومة المسؤولة عن تحريكها.
في استعراض السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة ما بعد «مرحلة التسويات» العام 2018 التي يمكن الجزم أنها شكلت مفترق طرق قياساً للنتائج التي أفضت إليها والتي كان من أبرزها استعادة دمشق لفضاءاتها الطبيعية التي تساعدها على الحركة والتمدد سبيلاً لوصولها إلى باقي الأطراف التي خرجت عن سيطرتها، نقول إن استعراض تلك السياسات يوضح أن واشنطن غيرت من رهاناتها التي كانت تقوم على ضرب الأطراف لدفعها نحو الابتعاد عن المركز، أما الرهان الجديد فكان يقول بضرورة إحداث تغييرات في البنى الاقتصادية التي ستتبعها بالضرورة نظيرة لها اجتماعية تفضي في نهاياتها إلى انكسار التماسك الاجتماعي، وكذا القائم ما بين الحلقات الاقتصادية التي تصبح العلاقة القائمة فيما بينها أشبه بالنهب والسلب منها إلى التبادل النفعي والتجاري، وهذا في سياقاته الأبعد يفضي إلى حالين من الانكفاء أولهما ذلك الذي يحصل بين الدوائر الداخلية بشتى صنوفها بدءاً من الاقتصادي- الاجتماعي ثم وصولاً إلى المذهبي- الإثني، وثانيهما ذلك الذي تضطر الدولة فيه إلى التحول من «العام» إلى «الخاص» في منحنى يزداد تعمقاً، بمعنى أن تذهب نحو الاهتمام بأجهزتها وإداراتها ومؤسساتها على حساب علاقتها مع باقي الشرائح التي قد تشكل أكثر من 85 بالمئة من مواطنيها، والحالة هذه التي قد تؤدي إلى تماسك أجهزة الدولة، وهو إيجابي، لكنها في مقلب آخر ستكون لها تداعياتها الخطرة وخصوصاً إذا ما استمر ذلك الفعل في مساره التصاعدي، هذا الرهان بدا واضحاً منذ إقرار «قانون قيصر» أواخر عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ثم تعمق عبر إقرار «قانون مكافحة الكبتاغون» قبيل ثلاثة أيام من انصرام العام 2022.
قد يكون من المكرور القول إن ما وصلنا إليه جاء نتيجة لعقوبات خارجية هي الأعتى مما تعرضت له دولة بحجم وموارد الدولة السورية، ومن المؤكد هو أن تلك العقوبات كانت قد استطاعت النفاذ إلى مواطن «الحركة» السورية بغرض إعطابها وشل قدرتها، ولربما كان حجم الضغوط الخارجية المطبقة على «حوامل نقل الحركة» السورية بادياً للعيان ومن السهل علينا تلمسه، لكن السؤال: تجاه هذا الواقع الذي من المقدر له أن يشهد المزيد من التصعيد، ماذا نحن فاعلون؟
لربما كان أخطر ما في الحالة التي تعيشها البلاد والتي يظهر من خلالها التململ الذي راحت تبديه كل مكوناتها بدءاً من الحكومة ثم وصولاً إلى الشارع وقواه المحركة، هو أن الجميع ينتهج سياسات تقوم على التعايش مع هذه الحالة والتكيف معها، والخطورة هنا تتأتى من معطيين اثنين، أولهما أن هذا النهج ينطلق من إدراك راسخ، لدى هؤلاء، مفاده أن هذا الواقع سيطول ويطول، وثانيهما أن الخيارات المتاحة لمواجهته تكاد تكون شبه معدومة، ولربما ظهرت هذه الحالة الأخيرة، أكثر ما ظهرت، عبر السياسات التي راحت من خلالها الحكومة تتخلى عن خيار الإمساك بالمبادرة، واتباع خيار يقوم على ترك التوازنات لتتحكم، إن لم يكن لتتلاعب، بآلية عمل السوق، وعليه فقد بات رأس المال هو القوة التي تمسك بدفة قيادة الاقتصاد وهو الأمر الذي همش دور باقي الفعاليات من نوع قوى الإنتاج ووسائله التي باتت رهينة تحرك رأس المال الذي شاب أداءه الكثير فيما يخص صبغته الوطنية، والشاهد هو أن حصيلة السياسات السابقة كانت قد أفضت، فقط، إلى توزيع الخسائر على السواد الأعظم من السوريين وهو ما انعكست آثاره فاقعة عبر النماذج التي تدخلت فيها الحكومة، والتي كانت في مجملها تراكم الثروة بأيدي قلة على حساب الأكثرية التي باتت تتمترس عند حدود تأمين احتياجاتها الأساسية.
من حيث النتيجة، قادت السياسات الاقتصادية السابقة الذكر، إلى تحولات مجتمعية شديدة الخطورة، ولربما كان مكمن الخطورة الأكبر فيها قد تمظهر في التلاشي التام للطبقة الوسطى التي شكلت في البلاد على مر مراحلها، وفي كل البلدان التي تنتهج أنظمة اقتصادية شبيهة، ضمانة الاستقرار والمدخل الأهم للمحافظة على حيوية المجتمع وسلالة حركته، وصحيح أن تلك الطبقة كانت قد تلقت ضربات متتالية على امتداد سني الأزمة السابقة، لكن العام 2022 كان قد أدى إلى تلاشيها تماماً.
نقطة مهمة أخرى يمكن لحظها أيضاً في السياقات التي مضى إليها العام المنصرم، وهي تتمثل بوهن «إضافي» عانى منه القطاع العام، الذي يمثل الذراع الأمضى للحكومة في سياق بسط سيطرتها، والمؤكد أن حالة الوهن كانت قد وضعت هذا الأخير بوضعية «فاقد القدرة والقوة» على القيام بأي حراك من النوع الذي يستطيع من خلاله ممارسة «البسط» الآنف الذكر، ولربما كان السؤال الأهم هنا: لمصلحة من يجري تهشيم تلك الصورة وإخراجها لتظهر برسم «المستنفدة» تماما؟
نحن تجاوزنا أزمة الثمانينيات 1978 – 1983 عبر مرتكز أساسي كان يتمثل بالقطاع العام الذي كان على الرغم من كل المعوقات، قادراً على التدخل حيث يجب أن يتدخل، وقادراً على انتشال أولئك «الطريين» غير القادرين على مواجهة الرياح التي استهدفتهم بغرض أن يصبحوا خاصرة رخوة للحكومة وأداة لنشر الفوضى تحقيقاً لمرام أكبر، الأمر الذي يفسر سرعة التعافي من تلك الأزمة التي خرج منها الكيان السوري دون «دمامل» تذكر.
سيرياهوم نيوز 1-الوطن