هشام صفي الدين
تعود سياسة واشنطن الساعية إلى خلق أحلاف عسكرية تابعة لها في منطقتنا إلى بدايات الحرب الباردة. أوّل محاولة جدية كانت عام 1953، عندما قام وزير الخارجية آنذاك جون فوستر دالاس بجولة مكوكية على الدول العربية، وهي الأولى من نوعها لمسؤول أميركي بهذا المستوى. أراد دالاس إنشاء «منظمة الدفاع الشرق الأوسطية» (ميدو) كجزء من سياسة واشنطن للاحتواء الجيو-إستراتيجي للاتحاد السوفياتي والتي تمخّضت عن تأسيس «الناتو» (حلف منظمة شمال الأطلسي) عام 1949. سرعان ما عدل دالاس عن فكرته بعد أن واجه تعقيدات نابعة من الواقع الاستعماري الغربي في المنطقة وأبرزها: خلاف بريطانيا مع إيران حول ملف تأميم شركات النفط، وخلافها مع مصر حول الوجود العسكري البريطاني في السويس، والصراع حول مصير فلسطين بعد إنشاء دولة الكيان. وعليه، تبنّى دالاس إستراتيجية بديلة سمّاها «الغلاف الشمالي». تقوم هذه الإستراتيجية على تسهيل عقد اتفاقات أمنية ثنائية بين دول حليفة أو تابعة للمعسكر الإمبريالي بغطاء أنغلو-أميركي مع التركيز على دول الطوق وهي تركيا والعراق وإيران وباكستان. وقد أدّى انضمام تركيا إلى حلف «الناتو» عام 1952 وباكستان إلى حلف «منظمة جنوب شرق آسيا» (سياتو) عام 1954 من تعزيز هذه المقاربة. فقد رأت واشنطن في إيران والعراق حلقتي وصل بين السلسلتين الأوروبية والآسيوية لتوسيع رقعة الاحتواء. أثمرت هذه الجهود عن ولادة «حلف بغداد» عام 1955 والذي وُقّع بداية بين العراق وتركيا وانضمت إليه لاحقاً ثلاث دول هي: باكستان وبريطانيا وإيران. لم يُعمّر حلف بغداد طويلاً وأتى بنتائج عكسية. إقليمياً، عارض عبد الناصر الحلف بشدّة واعتبره خرقاً لاتفاق التعاون العسكري والاقتصادي المُبرم عام 1950 بين أعضاء جامعة الدول العربية ومن ضمنها العراق. وأتى العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في سنة 1956 ليؤجج الغضب الشعبي تجاه القوى الاستعمارية الأوروبية وخاصة بريطانيا وهي عضو في حلف بغداد. منع المدّ الشعبي العروبي الأردن من الانضمام إلى الحلف رغم تبعية النظام الحاكم للغرب. أمّا دول الخليج، وخاصة السعودية، فهي لم تكن في وارد دعم حلف عسكري يتبوّؤه البيت الهاشمي، أي الخصم التاريخي لآل سعود.
داخليّاً، لم يؤمّن حلف بغداد أي حاجة أمنية أو عسكرية أو إستراتيجية للعراق تعزّز من استقلاليته وتحمي أراضيه. بعكس اتفاق «الناتو» واتفاق جامعة الدول العربية للدفاع المشترك، لم تنصّ اتفاقية حلف بغداد بشكل واضح على التزام الدول الأعضاء بالدفاع المتبادل في حال تعرّضت أي منها إلى اعتداء واكتفت بعبارات فضفاضة ومقتضبة عن التعاون والتنسيق الأمني. عَكَس ذلك طبيعة الاتفاق الذيلية للغرب والتي لم تُبنَ على أرضية سياسية وعقائدية صلبة أو تصوّر واضح للمصالح المشتركة.
كشف حلف بغداد كذلك عن فشل القيادة العراقية في تحقيق المطالب المحقّة للشعب العراقي بإنهاء الوجود العسكري البريطاني. فقد أدّى انضمام بريطانيا للحلف في 5 نسيان 1955 إلى استبدال اتفاقية التحالف التفضيلي بين العراق والمستعمر البريطاني والتي أبرمت عام 1930 باتفاقية ثنائية على أساس «التعاون بين شريكين متساويَين». منحت الاتفاقية الجديدة، والتي تمت برعاية عرّاب اتفاقية 1930 ورجل بريطانيا الأول في العراق نوري السعيد، سيادة صُورية للعراق على القواعد العسكرية التي أنشأها المستعمر البريطاني (وتحديداً قاعدتي الحبّانية والشايبة). لكنها حفظت لبريطانيا كل الامتيازات التي كانت تتمتع بها. فقد حصلت لندن على حق استخدام السلاح الجوي الملكي لتلك القواعد والاحتفاظ بملكية المنشآت العسكرية الحيوية فيها مقابل دفع 2,8 مليون جنيه إسترليني كتعويض (بشرط أن يتعهّد العراق بشراء أسلحة بريطانية بقيمة مليوني جنيه). احتفظت بريطانيا كذلك بحق التحليق في الأجواء العراقية وحق الهبوط والإقلاع وحرية تخزين قطع الغيار للعتاد الحربي والإبقاء على مراكز الصيانة. وتم تمويه بقاء القوات البريطانية بشكل دائم عبر ربط وجودها ببرامج التدريب للجيش العراقي وعبر استبدال الوحدات المقيمة بوحدات جديدة بين الفينة والأخرى.
لم تنطلِ هذه الديباجات على القوى الوطنية العراقية، خاصة أن نوري السعيد، وبالتواطؤ مع القصر الملكي، حلّ البرلمان العراقي المناوئ له وهندس انتخابات جديدة أفرزت برلماناً مطواعاً مرّر الاتفاقية. تفاقمت النقمة ضد حكم نوري السعيد والتبعية للغرب في أوساط القوى التقدمية القومية والشيوعية على حدّ سواء إلى أن أطاحت الثورة العراقية بقيادة عبد الحكيم عامر عام 1958 بالحكم الملكي وأخرجت العراق من فلك النفوذ الإمبريالي الغربي. كادت ثورة العراق أن تؤدي إلى قلب نظام الحكم في الأردن وزعزعته في لبنان، وكلاهما مُوالٍ للغرب. لكن التدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة وبريطانيا في كلا البلدين وضع حدّاً لذلك.
في عام 1959، خرج العراق من حلف بغداد فأعادت الولايات المتحدة تشكيله تحت مسمّى «منظّمة الاتفاقية الوسطى» (سنتو) ونقلت مقرّه من بغداد إلى أنقرة. على غرار حلف بغداد، لم يؤمّن حلف «سنتو» أي ضمانات بالدفاع المشترك ولم يُنشئ قيادة عسكرية دائمة أو جهازاً استخباراتياً أو قوات عسكرية مشتركة وتحوّل مع الوقت إلى شبكة تعاون تقني واقتصادي قليلة الفائدة. في عام 1979، تلقّى الحلف الضربة القاضية مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران وخروج الأخيرة منه تلاها خروج باكستان فتم حلّ الحلف بشكل رسمي.
لم يكن الحلف العسكري في جنوب شرق آسيا والمعروف بـ«سياتو» أوفر حظّاً. منذ تأسيسه عام 1954، لم ينضم إلى «سياتو» سوى بلدين من جنوب شرق آسيا (هما الفيليبين وتايلاند) بالإضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ونيوزيلندا وأستراليا وباكستان. نشط الحلف في تقديم الاستشارات التكتيكية لمحاربة التيارات الثورية الاشتراكية واستغلّته الولايات المتحدة من أجل تبرير تدخّلها في فييتنام. عزّز ذلك من اتهام الحلف بأنه أداة للاستعمار وأدّت هزيمة الولايات المتحدة في الحرب إلى حلّ الحلف بشكل رسمي عام 1977.
بالمحصّلة، فشلت إستراتيجية الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة في تشكيل أي حلف عسكري مستدام في الشرق الأوسط خارج إطار الناتو (تركيا) والدعم غير المشروط لإسرائيل. علاوة على ذلك، شكّلت هذه الأحلاف عبئاً سياسياً ثقيلاً على الأنظمة المتعاونة وصلت حدّ انهيارها في إيران والعراق وكادت أن تودي بها في الأردن لولا التدخل العسكري المباشر. لم تستثمر القوى العربية التقدمية، وخاصة في مصر والعراق وسوريا، هذا الإخفاق وتبني حلفاً إستراتيجياً مناهضاً لأسباب لا مجال لشرحها. مع نهاية السبعينيات، وبعد حربين عربيّتين إسرائيليتين، انحسرت القوى الثورية العربية. عوّضت واشنطن عن خسارتها للحليف الإقليمي الأقوى بعد إسرائيل، أي إيران، عبر جذب مصر تحت حكم السادات إلى معسكرها وعبر سياسة الاحتواء المزدوج في الثمانينيات لكل من إيران والعراق عبر تسعير الحرب بينهما بتواطؤ نظام صدام حسين.
أثبتت حركات المقاومة، عبر الميدان قبل المنبر، ومن دون معاهدات رسمية وضجيج ديبلوماسي، عن مستوى مبهر من تفعيل آليات دفاع مشتركة
شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي في العقد الأخير من القرن الماضي منعطفاً جديداً في مقاربة واشنطن لهيمنتها الجيو-إستراتيجية على المنطقة. انتفى «الخطر الشيوعي» وظهر «خطر الإرهاب الإسلامي» وزاد «خطر الديكتاتوريات». وفي ظل فائض القوة الذي تمتعت به واشنطن، بات الوجود العسكري الأميركي المباشر أكثر فجاجة. شنّت الولايات المتحدة حرب الخليج الأولى بحجة تحرير الكويت واجتاحت أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 ووطّدت قواعدها العسكرية ومقرات القيادة في قطر والبحرين والسعودية وفرضت مسار تسوية استسلامي للقضية الفلسطينية.
لكن العدّ العكسي بدأ مع صعود حركات المقاومة العسكرية في أفغانستان والعراق وانتصار المقاومة في لبنان عام 2006 وفي غزة عام 2008. استغلّت واشنطن الانتفاضات العربية في وجه أنظمة الاستبداد النيوليبرالي والتي اندلعت عام 2011 فحرفت مسارها. دعمت الإدارة الأميركية الثورات المضادة في البلدان التي تحكمها أنظمة موالية لواشنطن (مصر والبحرين) وأسهمت في إشعال الحروب الأهلية في تلك المناوئة لها (ليبيا وسوريا) ودوماً تحت سقف أمن إسرائيل ومصلحتها. وفي غياب الهيمنة العسكرية المطلقة التي تمتعت بها في التسعينيات، لجأت واشنطن إلى الحصار المالي والعقوبات الاقتصادية والضخ الإعلامي لتقويض خصومها. لم يمنعها ذلك من توطيد وجودها العسكري الذي بلغ بحسب آخر الإحصائيات أكثر من 60 منشأة في 13 دولة. ولم يمنعها من التعاون مع وكلائها الخليجيين من أجل شن حرب على اليمن والدفع باتجاه تصفية القضية الفلسطينية عبر التطبيع بين الكيان ودول الخليج وعلى رأسها السعودية. طوال هذه المرحلة، لعبت واشنطن ووكلاؤها العرب على الوتر الطائفي فتمّ تصوير إيران، لا إسرائيل، كخطر وجودي على العرب.
قلب «طوفان الأقصى» هذا المشهد رأساً على عقب. لم تعد الورقة الطائفية قابلة للصرف ولم يعد صرف النظر عن التغطرس والتوحّش الإسرائيليين والمدعومين غربياً مقنعاً. والأهمّ على الصعيد الجيو-إستراتيجي أنّ الكيان الصهيوني بات بحاجة إلى دعم عسكري مباشر ومستمرّ من واشنطن. بكلام آخر، اضطرّت الولايات المتحدة إلى القفز فوق حلفائها الإقليميين لإعادة التوازن الإستراتيجي وبصيغة غير مستقرة رست حتّى الآن على حرب استنزاف من العيار الثقيل.
في المقابل، أثبتت حركات المقاومة، عبر الميدان قبل المنبر، ومن دون معاهدات رسمية وضجيج ديبلوماسي، عن مستوى مبهر من تفعيل آليات دفاع مشتركة ومن التنسيق الأمني والديبلوماسي والتخطيط العسكري المتفاني والمنضبط في آن وفي ظل ظروف إقليمية معقدة. تمثّل هذه التجربة نموذجاً جديداً في المسار التاريخي للأحلاف العسكرية في المنطقة. من المبكر استشراف التداعيات الإستراتيجية لهذا التطور على المدى البعيد في ظل تحديات بنيوية وذاتية لبعض مكوّنات المحور وعلى وقع متغيرات دولية متسارعة وقبل انقشاع غبار المعركة في غزة وباقي الجبهات. لكن المؤكّد، وبحسب التجربة التاريخية، أن أي مشروع حلف عسكري مضاد تحت المظلّة الأميركية سيبقى في إطار استعماري وظيفي دون مكاسب عسكرية تراكمية للمنضوين في كنفه. وسيبقى موجّهاً ضد مصالح شعوب المنطقة، وقد يتحوّل، في لحظة تاريخية معينة، ضد مصلحة الأنظمة نفسها.
* أستاذ جامعي
سيرياهوم نيوز١ _الاخبار