آخر الأخبار
الرئيسية » تربية وتعليم وإعلام » عزوف الصحفي عن التطوير المهني… انعكاس لسوق لا يكافئ المعرفة

عزوف الصحفي عن التطوير المهني… انعكاس لسوق لا يكافئ المعرفة

  • لماذا يقف الصحفي عند عتبة التطوّر، بينما يقف العالم أمام فورة الذكاء الاصطناعي وتحوّلات الإعلام الرقمي؟
  • ماهو السبب الذي يجعل البعض يخشى تحديث أدواته، بينما يكتفي البعض الآخر بنسخ السائد؟
  • أين تكمن أهمية التدريب المستمر للصحفي في ضوء تطور أدوات التلقي؟

اشتباك مع الإشكالية

يضعنا الطوفان الرقمي والتحولات التقنية، أمام مواجهة حقيقية لأزمة تطوير الذات في أوساط الصحفيين بين من يطالب بالمألوف، وبين من يتجرأ على المجهول. فهل تعكس هذه الأزمة قصوراً في رغبة الصحفيين بالتعلم والتدريب، أم إنها مجرد انعكاس لمناخ إعلامي يشجع الاستهلاك على حساب المعرفة؟
في ظل هيمنة السوق الإعلامية على منطق الاستهلاك اللحظي، وتراجع الاهتمام بالمحتوى المعرفي العميق، يجد الصحفي نفسه في مواجهة أزمة وجودية: هل يُطوّر أدواته ويواكب الثورة التقنية، أم يرضخ لواقع لا يكافئ الاجتهاد ولا يحتفي بالتحليل؟
هذه الإشكالية لا تنبع فقط من مقاومة التغيير أو الخوف من الذكاء الاصطناعي، بل من غياب بيئة إعلامية احترافية تُحفّز على النمو، وتُقدّر الصحافة بوصفها مهنة تفكير لا مجرد نقل.
في هذا المقال، نغوص في الأسباب التي تدفع الصحفي إلى العزوف عن التطوير، ونفكك العلاقة المأزومة بينه وبين سوق إعلامي يفضّل الترفيه على التنوير، ونستعرض كيف يمكن للتقنيات الحديثة أن تكون حليفاً لا خصماً، إذا ما توفرت الرؤية والإرادة.

معطيات وأرقام: واقع التدريب الصحفي عالمياً

تفيد دراسة بريطانية بحثية من المملكة المتحدة بأن 55% من الصحفيين خضعوا لتدريب مهني حديث، بينما 64% يشعرون بالحاجة إلى مهارات جديدة، خصوصاً في التحليل الرقمي والبياني. (هذه البيانات عادة ما تُستقى من مؤسسات بحثية مثل معاهد الدراسات الإعلامية أو جمعيات الصحفيين البريطانية).
كما نشرت منظمة اليونسكو معلومات عن حجم الإنفاق السنوي على تدريب الصحفيين عالمياً، مع ملاحظة أن أثر هذه التدريبات يبقى محدوداً بسبب ضعف المتابعة ومقاومة بعض المؤسسات الإعلامية للتغيير. اليونسكو تصدر تقارير دورية حول الإعلام والتنمية المهنية للصحفيين.
كذلك وجه تقرير رويترز: تحذيراً أو توصيفاً للعائق الأكبر أمام الابتكار الصحفي وهو تمسك غرف الأخبار بالبنى التقليدية وسرعة النشر على حساب الجودة. هذا النوع من التقارير يصدر ضمن تقارير منتظمة عن حالة الصحافة العالمية من مؤسسة رويترز للصحافة.
وتذكر الباحثة جين سينغر أن الابتكارات الصحفية تواجه مقاومة لكنها في النهاية تصبح جزءاً من الحياة المهنية، وتحفز المبادرة للاستيعاب المبكر للذكاء الاصطناعي.

استنساخ السائد وإجهاض المبادرات

“لأننا دائماً هكذا نفعل”… ليست مجرد عبارة عابرة، بل هي عقيدة غير معلنة تحكم آليات العمل في كثير من غرف التحرير، وتُستخدم كدرعٍ دفاعي في وجه أي محاولة لتجديد أو تطوير. في هذه البيئة، يُنظر إلى المبادرات الفردية بعين الريبة، ويُصنّف كل خروج عن المألوف على أنه تهديد لـ”هوية المؤسسة” أو “أصول المهنة”، لا فرصة للنمو أو التجريب. وهكذا، تُفضّل الإدارات الإعلامية المحتوى المتوافق مع عاداتها التحريرية، وتُحبط الطفرات الإبداعية باسم الحفاظ على التقاليد، بينما تتجاهل أن هذه التقاليد نفسها قد تكون جزءًا من المشكلة.
مع مرور الوقت، يتآكل الحافز الذاتي لدى الصحفي، ويصبح التغيير رفاهية غير مرغوبة، لا لقصور في الكفاءة أو غياب في الطموح، بل لأن السوق الإعلامي لا يكافئ المختلف، بل يعاقبه أحيانًا بالتهميش أو ضعف الأجور. في هذا المناخ، تنتفي الحاجة إلى التدريب، ويُنظر إلى التطوير المهني كجهد غير مجدٍ، ما دام المنتج النهائي يجب أن يُطابق القالب المعتاد. وهكذا، يتحول الصحفي من صانع معرفة إلى منفّذ نمطي، ويُختزل دوره في إعادة إنتاج السائد، لا في مساءلته أو تجاوزه.

أجور المادة بين الصحفي المجتهد والصحفي المستهلك اليومي

في كثير من المؤسسات الإعلامية، تُحتسب قيمة المادة الصحفية وفق معيار واحد: مدى قدرتها على جذب الجمهور اللحظي، لا وفق عمقها أو جودتها المعرفية. هذا النموذج السائد في التحرير يُفرغ الصحافة من بعدها المهني، ويُسوي بين الصحفي الذي يُنقّب في التفاصيل، ويُطوّر سردًا مدعومًا بالتحقيقات، وبين آخر يكتفي بكتابة مادة إنشائية عابرة لا تتطلب جهدًا بحثيًا أو تحليليًا. النتيجة؟ غياب الحافز الاقتصادي للارتقاء، وانطفاء الدافع المعرفي للاستمرار.
هذا التساوي في الأجر لا يعكس عدالة مهنية، بل يُكرّس ثقافة الاستسهال ويُحبط المبادرات الفردية. فحين لا تُكافأ الجودة، يُصبح الاجتهاد عبئًا لا ميزة، ويُفضّل الصحفي أن يكتب ما يُطلب منه بسرعة، بدل أن يُنتج ما يُضيف قيمة. ومع غياب معايير متخصصة لتقييم المادة الصحفية مثل مدى دقتها، قدرتها على التحليل، أو مساهمتها في بناء وعي نقدي تتحول الصحافة إلى سباق استهلاكي، لا إلى مشروع معرفي.

شهادات عالمية

وسط التحولات العميقة التي يشهدها المشهد الإعلامي العالمي، تتوالى التحذيرات والدعوات من مؤسسات بحثية وصحفية مرموقة، تؤكد أن الجمود المهني لم يعد خيارًا، وأن مقاومة التغيير قد تُفضي إلى التهميش. تقرير “رويترز” السنوي حول مستقبل الصحافة الرقمية يقرّ بأن “الابتكار الصحفي يُقابل في بدايته بممانعة، لكن الرابح يظهر عند جني ثمار الأزمة”، في إشارة إلى أن الصحفي الذي يغامر بالتجديد هو من سيحصد المكاسب حين تتغير قواعد اللعبة.
وفي السياق ذاته، تحذّر الباحثة الإعلامية “جين سينغر” من أن الذكاء الاصطناعي لن ينتظر أحدًا، وتقول: “سيتحول الذكاء الاصطناعي من مكمن تهديد إلى أداة تطوير… وعلى الصحفي أن يبادر بالاستيعاب قبل أن يبادر غيره بنقله من موقعه”. هذا الاقتباس لا يحمل فقط نبرة تحذيرية، بل يُعد دعوة صريحة للصحفيين كي يتحولوا من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، وأن يدركوا أن أدوات الذكاء الاصطناعي ليست خصمًا، بل فرصة لإعادة تعريف دورهم في غرف الأخبار.

السرد الذاتي

حين عدت إلى أرشيفي الورقي الممتد منذ سبعينيات القرن الماضي، لم أكن أبحث عن خبرٍ نُسي أو مقالٍ طواه الزمن، بل كنت أستعيد ذاكرة الصحافة كما عرفناها: حوارًا حيًا مع الواقع، ونبضًا إنسانيًا لا يُختزل في العناوين. كانت الصحافة آنذاك ذاكرة جماعية، تُكتب بالحبر والوجدان، لا بالصياغة المتماسكة فقط.
اليوم، تُكتب الأخبار بلغة سليمة، لكنها بلا إحساس. تُنشر بسرعة، لكنها لا تُلامس العمق. في تجربتي عند تأسيس أول موقع إخباري سوري، ثم في إدارة برنامج الصحافة الذكية، لم يكن السؤال: “كيف نستخدم التقنية؟” بل كان السؤال الأهم: “كيف نحافظ على المعنى؟” كيف نُبقي على جوهر الرسالة الصحفية وسط ضجيج الأدوات، ونُعيد للصحفي دوره كحارس للوعي، لا مجرد ناقل للمعلومة.

لماذا يعتقد بعض الصحفيين أنهم فوق الحاجة إلى التدريب؟

في بيئة إعلامية تُكرّس النمط وتُشرعن التقليد، ليس غريبًا أن يظن بعض الصحفيين أنهم لا يحتاجون إلى تدريب إضافي. فحين تغيب التجارب التي تُحفّز الفضول التقني، ويُختزل التدريب في ورش تقليدية لا ترتبط بحوافز ملموسة داخل المؤسسة، يصبح التعلم عبئًا لا فرصة. كثير من الصحفيين لم يُمنحوا مساحة لاكتشاف كيف يمكن للتقنيات الحديثة أن تُثري عملهم، ولم يُرَ في تطوير المهارات الرقمية سوى ترفٍ لا ضرورة.

هذا الاعتقاد يتغذى أيضًا من واقع سوق إعلامي لا يُكافئ الإبداع، بل يُكافئ من يُتقن إعادة إنتاج السائد. في مثل هذا المناخ، يُصبح التميز مخاطرة، والتجديد مغامرة غير مضمونة العواقب. ومع الوقت، يترسخ شعور بأن التدريب لا يُغيّر شيئًا، وأن البقاء في الوظيفة لا يتطلب سوى الالتزام بالقالب المعتاد.
لكن تجارب عالمية تُثبت العكس. فقد أطلق معهد الجزيرة للإعلام مثلًا برنامج زمالة تدريبي يتيح للصحفيين الانخراط في فرق العمل داخل الشبكة، ويُشجعهم على إنتاج تقارير تحليلية تعكس المهارات المكتسبة عمليًا، ما يُعيد تعريف التدريب كمسار مهني لا كمجرد نشاط جانبي. وقدمت شبكة الصحفيين الدوليين، دورات مجانية بالتعاون مع شركات كبرى مثل Google وMeta، وتُركّز على تطوير الصحفيين في مجالات الصحافة الرقمية والتحقق من الأخبار، ما يُعزز من مكانتهم في سوق متغير.
وفي السياق العربي، تقدم مؤسسات مثل كايرو ميديا سكول ومعهد الأهرام الإقليمي للصحافة برامج تدريبية متخصصة في الصحافة الرقمية، السرد القصصي، والتحقيقات الاستقصائية، ما يُعيد الاعتبار للصحفي كمبدع لا مجرد ناقل.
وقدمت الجامعة الافتراضية السورية برامج تدريبية شملت مختلف الإعلاميين في إطار مركز التعلم مدى الحياة والتعلم المستمر، كان منها الورشة التدريبية لصحافة الحلول المجتمعية.

مخارج معرفية نحو صحافة المستقبل

في ضوء ما تقدّم من تشخيص دقيق لأزمة الصحفي في السوق الإعلامي، تبرز الحاجة إلى مخارج معرفية لا تُعالج الأعراض فحسب، بل تُعيد بناء المنظومة من جذورها. أول هذه المخارج هو تبنّي التدريب مدى الحياة، لا كمناورة شكلية تُضاف إلى السيرة الذاتية، بل كخيار مصيري يُعيد الاعتبار المهني للصحفي، ويمنحه صوتًا فاعلًا في الثقافة الرقمية الصاعدة. فالمعرفة لم تعد ثابتة، والمهنة لم تعد تقليدية، ومن أراد البقاء في الحلبة الإعلامية القادمة، عليه أن يُجيد الرقص مع التغيير، لا أن يقف متفرجًا عليه.
ثانيًا، لا جدوى من اجترار السائد. الحل يكمن في فتح النماذج التحريرية على التجريب، وتوسيع معايير التقييم لتشمل الجودة، العمق، والأثر المعرفي، لا فقط عدد النقرات أو سرعة النشر. هذا يتطلب امتحانًا جديدًا للمعايير، يُعيد الاعتبار للصحافة كأداة بناء للوعي، لا كمنتج استهلاكي عابر.
وأخيرًا، لا يمكن الحديث عن تطوير دون ربط الأجر والتقدير بالأداء النوعي. حين يُكافأ الصحفي على تحقيق استقصائي أو سردية تحليلية بالطريقة نفسها التي يُكافأ بها على مادة إنشائية سريعة، فإننا نُفرغ المهنة من معناها. يجب أن يُصبح التميز معيارًا للأجر، وأن يُعاد توزيع الحوافز وفقًا لمستوى الإبداع، لا حجم الإنتاج.
هذه المخارج ليست مجرد توصيات، بل دعوة لإعادة هندسة الصحافة من الداخل، لتكون مهنة المستقبل لا ضحية له.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن يقف الصحفي عند عتبة التطوّر لأن بيئة العمل لا تحفّز على التجديد، وتُقصي من يغامر خارج القالب المعتاد. قد يخشى البعض تحديث أدواته لأن الخوف من فقدان الدور يقابله شعور بالرضا عن نمطية لا تُهدد الاستقرار المهني. و أخيراً تكمن أهمية التدريب المستمر للصحفي في تمكينه من مواكبة جمهور أكثر تطلبًا وتفاعلًا، وتحقيق أثر معرفي مستدام.

“الكتابة ليست مجرد نقل للحدث… بل إعادة بناء الوعي ليغدو الفكرة نقاشًا عامًا.”

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية
x

‎قد يُعجبك أيضاً

وزير التعليم العالي السوري: إعلان المفاضلة العامة نهاية الأسبوع الجاري

أكد وزير التعليم العالي والبحث العلمي مروان الحلبي أنه سيتم الإعلان عن المفاضلة العامة للقبول الجامعي مع نهاية الأسبوع الجاري، وإطلاق التطبيق الإلكتروني الجامعي “جامعتي” ...