قد تبدو هذه المجموعة الشّعريّة سرباً من العصافير يُحلّقُ في سماء الأدب، أو مجموعة تأمّلات في الحب والحياة من عين الشاعر وإحساسه، لكن في الحقيقة هي أكثر من ذلك بكثير، لأنّها عبارة عن قصائد نثريّة نازعة إلى الحرّية تحت ظل استحالة استقرار المفاهيم، وأمام من يعتبرون أنّ قصيدة النّثر ملتصقة بالخيانة وغير شرعيّة، وتُمثِّل ردّة فعل أمام الانحطاط الحضاري.
“تَوهّجْ توليدي عال”
تخيّلوا أن كاتباً نَظَّمَ على مدى خمسة وأربعين عاماً في أغلب الأحيان شعراً على نمطيْ “المُقفّى والتّفعيلة”، يُحرّك اليومَ دفّته الأدبيّة الشّعريّة بكامل قواه الفكرية نحو قصيدة النّثر ويدافع عنها، ويرى أنّ كلّ نثر مدروس يُشكّل إضافةً جديدةً، ومن الواضح أنّه يهدف إلى توسيع دائرته النّثريّة حتى تصل إلى عمق المشهد الثّقافي العربي لتحرّك فيه شأن القصيدة النّثريّة التي أصبحت في رأيه مُنجزاً حضاريّاً وتطوّراً شعريّاً لافتاً، يدعو من خلاله إلى ضرورة التّخلّص السّريع من المضامين التي تجرُّنا إلى الوراء، وأنه قلباً وقالباً مع بيئة النّثر الطّالع من الثّقافة التّراثيّة العربيّة والقادرة على تشكيل رؤىً وأفكارٍ تخدم الإبداع الجديد الذي يحتاجه المجتمع، كما أنّه مع التّثاقف مع الغرب والشّرق إلى حدوده القصوى من دون التّخلّي عن هويّتنا، وعندما نصل إلى التّساؤل الأهم الذي يطرحه الشّاعر في كتابه وهو ما الفرق الكبير بين لغة الشّعر ولغة النّثر، وهل هناك لغتان؟ أَعتقِدْ أنّنا نكون قد وصلنا إلى لبّ المقصود عنده.
“العناوين الشّاعريّة”
يغلب على عناوين الشاعر توفيق الرومانسيّة الغارقة في التّعابير الشّفيفة التي تصوّر لنا مشهداً حسيّاً متكاملاً لنغرق بعده في تفاصيل الحب والحياة، فمثلاً يقول في آخر قصيدته التي عنونها ” قمرٌ شماليٌّ يُضيءُ لغاية في نفس الرّيح”:
عودي يا بجعة الرّوح، يا وجعَي السّرمديَّ
وتبختري من جديد
على مداراتِ تيهي
لأغدو أكثرَ أملاً
وأكثرَ انعتاقاً
من أقفاصي
وفي قصيدة بعنوان “ظِباؤُها ترعى في دمائي” تنزف روح الشاعر وتدمي قصيدته فيقول:
أيّتها الحبيبةُ
قد تتلاقى غاياتنا وأهدافنا عند مفترقِ كُحلِ عينيكِ قريباً
عِنبُكِ فاخرٌ وأصيلٌ
حبّةٌ منه تكفي لمشوارٍ طويلٍ طويل
فحاذري الهمومَ ما استطعتِ
وأديري وجهكِ للجهلِ وضيقِ الأُفق
وتقبّلي طيفي يزورُك كمفاجأةٍ دائمةٍ
كمن ينتشلُ غريقاً في باديةٍ
إنّ هواكِ هو الأغلى
وظباؤُك وحدَها
هي التي ستبقى ترعى في دمائي.
وتتهافت عناوين أخرى كثيرة على بالي لكن سأذكر أبرزها هنا: “أدعو ضفائركِ للتفاوضِ مع أصابعي”، “أقمارُك تتأرجحُ في مداراتي”، “مواقدها تمتلىءُ بكستنائي”، “انبطاح الرّجولات على أحذية الخوف”، “نوايا مملوءة بالألوان”.
“مفردات من الطّبيعة”
كل كلمة منثورة في هذا الكتاب هي كلمات محفورة بأزاميل البيئة التي جاء منها الكاتب توفيق أحمد، فهي ريفيّة بسيطة وعميقة ومنعشة، فضلاً عن تجربته المعرفيّة والجماليّة خلال مسيرة حياته، ويبدو أنّ هذين السببين هما المسوّغان لتلك المفردات التي استخدمها الكاتب بسخاء في كثير من نصوص الكتاب ومنها: البابونج، الحبق، الصفصاف، السنبلة، الزّوفا، النّعناع، النّارنج، الكروم، الكستناء، السوسنة، الياسمين… إلخ.
“تخوم الشّاعر”
من الممكن كثيراً أنّه مثلما كان الأديب الكبير عباس محمود العقاد في بدايته من محاربي شعر التّفعيلة ثم أصبح بعد زمن من ممتدحيه، أن يكون الأديب توفيق أحمد ممن لم يلتفت كثيراً في بدايته للقصيدة النّثريّة التّأمّليّة لكنّه الآن وبعد زمن أصبح من مناصريها والدّاعين لإطلاقها كرؤية جديدة حداثويّة يؤمن بها تماماً، من مبدأ أنّه يجب أن نبحث عن شرف المعنى دائماً، وأن نبتعد عن الاختناقات اللغويّة، وانّه لا يمكن لمفهوم ما عن أي شيء أن يستقرّ لآلاف السنين.
أخيراً.. المؤلف توفيق أحمد هو الكاتب والإعلامي الذي لديه العديد من البرامج الإذاعية، وهو حالياً رئيس تحرير جريدة «الأسبوع الأدبي»، ونائب رئيس اتحاد الكتّاب العرب، وصدرت له هذه المجموعة الشّعرية مؤخّراً عن دار بعل للطباعة والنشر، بعد كتابه “فارس وتخوم” بطبعته الثّالثة، الذي هو عبارة عن عشرات الدراسات النقديّة والآراء والشهادات في تجربته الشّعرية.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين