نارام سرجون
أعترف انني كنت غاضبا من مصر عندما سمعت تصريحات سامح شكري عن ازدرائه لما قامت به حماس وتبنيه لما تشيعه اسرائيل ان حماس ليست فلسطينية الشارع بل أقلية تسطو على الشارع الفلسطيني .. وسمعت من يدعى شيخ مشايخ سيناء يهدد الغزاويين بالذبح .. لم يكن اعتراضي على التصريحين المفجعين انهما مليئان بالوقاحة والفجاجة وخاليان من الشعور الانساني الذي يلوم الضحايا ولايلوم القتلة .. بل لأن التصريحين فيهما تذلل وعبودية يريديان نيل رضى الامريكيين والحصول على جائزة ومكافأة وميدالية اوروبية .. وكلاهما كان بلا كرامة .. وينتميان الى التصريحات الرخيصة .. وقد كتبت مقالا حبره من القسوة .. وكان القلم يحفر اوراقي غضبا ويحرثها كمحراث يحاول اقتلاع الشوك الذي زرعته هذه التصريحات الرخيصة ..
لكني وجدت أنني لايحق لي أن أغضب على مصر لأنها ليست على مايرام شعبيا ورسميا واقتصاديا .. فهي ضحية ذلك القرار الاحمق بالسلام مع اسرائيل الذي حولها الى قوة في المتحف .. فكل مافيها متاحف فرعونية ومتاحف للناصرية ومتاحف للثورية ومتاحف للعروبة .. وهي تتصرف وكأنها متحف للقرارات ومتحف للثورات .. ولم يعد فيها الا الآثار والذكريات لأزمان كانت جميلة ..
حرب غزة كشفت ان غياب مصر كان ثغرة كبيرة لايمكن تعويضها خاصة ان ثقل مصر الجغرافي والسياسي والشعبي والعسكري طبعا كان غائبا تماما .. بدليل ان ثلاثة أرباع عذابات غزة كان بسبب غياب مصر وليس بسبب اسرائيل ..
مصر الاعلامية والرسمية أغلقت المعابر ولم تسمح لأحد ان يخرج من المحرقة بحجة الامن القومي المصري الذي يتحقق بذبح أهل غزة .. وموتهم جوعا وعطشا .. ولم تمارس مصر اي ضغط على اسرائيل رغم كل التصريحات التي تحاول اظهار أن مصر لاتوافق على جرائم اسرائيل .. بل الضغط الهائل كان على الغزاويين وتحميلهم مسؤولية ماجنت عليهم حماس .. وانهم يجب ان يدفعوا ثمن قبولهم حماس بينهم .. وثمن مغامرة حماس .. نفس منطق تحميل حزب الله مسؤولية مغامرة عام 2006 .. وغابت مصر الشعبية غيابا لافتا .. ولم تنطلق القوى الوطنية والناصرية في مصر لتحرض الناس للحضور الى الساحات للتعبير عن غضب الشعب – لاالدولة – على مافعلته اسرائيل .. وهذا لايمكن ان يعزى فقط لقوة اليد والذراع الامنية بل فيه نوع من ضعف الدافع والحافز الشعبي الذي خرج ضد الاخوان بالملايين بتوجيه القوى الوطنية المدنية والتقدمية والجيش ..
أعتقد اننا يجب بعد خمسين سنة على أخر مساهمة مصرية في الصراع العربي الصهيوني يجب ان نحلل الموقف المصري الشعبي والرسمي والحكومي بواقعية ولا أن نتحامل على مصر او نطلب منها مالا تستطيعه .. فالمصريون لاشك وطنيون ولاشك انهم يعرفون ان أعداءهم في الغرب .. وهي قناعة يتداولونها كما يتناولون الفول المدمس والطعمية .. ولكن هناك مسألة لم يحلوها منذ توقيع كامب ديفيد وهي أين يقفون الان؟؟ وماهو دورهم؟ وماهي علاقتهم بالعالم العربي بعد ان تم تشويش الوعي المصري الجمعي وايهامه ان العالم المصري مختلف عن العالم العربي وهو منفصل عن هموم العالم العربي ..
فهم وطنيون وشوفينيون جدا في حب مصر ويفضلون دوما ان ينتموا الى أم الدنيا وشرسون بوطنية هائلة ضد من ينتقد مصر .. ولكنهم في ممارستهم السياسة والدور الاقليمي لايقومون بدور الأمومة لأحد منذ اختيار السلام .. فالسلام خيار انعزالي في منطقة تعج بالاسرائيليين وطموحاتهم والمشاريع الغربية الاستعمارية .. والمصريون يريدوننا بصدق ومن كل قلوبهم أن ننتصر على اسرائيل .. ويصلون كي ننتصر وأن نسحق الاسرائيليين ولكن بدونهم .. فهم لم يعودوا مقتنعين بأن لهم دورا في الصراع العسكري او ان شهيتهم مفتوحة لخوض اي مواجهة مع الغرب .. وهم لايقصرون في الدعاء والتمني لنا بالنصر ليل نهار .. واستجابتهم لبعض أهواء الاعلاميين المطبلين للسلام والنأي بالنفس ليست استجابة المخدوع بقدر ماتبدو استجابة الراغب والمقتنع والخائف من خوض مغامرة التحدي .. فكل العالم يبحث عن دور له في حرب غزة امام مناصرا لاسرائيل واما مناصرا لأهل فلسطين .. حتى في البرازيل نشأ عراك ديبلوماسي بين البرازيليين والاسرائيليين .. وفي اليابان البعيدة جدا يخرج الناس في مظاهرات تأييد للفلسطينيين ورفضا للمحرقة وحرب الابادة .. ولكن في مصر يخرج علينا اعلاميون مصريون يستميتون من أجل ان يلتزم الناس بالنأي بالنفس .. وقد نسوا يوما أن سليمان الحلبي لم ينأى بنفسه عندما أذل الفرنسيون مصر والمصريين .. وسافر من حلب الى مصر ليغرس خنجره في قلب الجنرال الفرنسي .. ولاتزال حلب تنتظر عودته الى اليوم لكن جمجمته محفوظة كالايقونة والتحفة في متاحف فرنسا ولاتسلمها لأي جهة لأنها تريد ان تعتقله الى الابد .. عقابا له لى أنه لم ينأى بنفسه .. فيما سليمان الحلبي لايبالي ولاينأى بنفسه عما فعل لمصر ..
وفي عام 1956 في العدوان الثلاثي .. قرر ضابط مسيحي سوري اسمه جول جمال على طريقة سليمان الحلبي ان يسافر من اللاذقية السورية ويترك ساحل البحر وخطيبته التي عاشت عقودا بعده ولم تتزوج بعد استشهاده وبقيت وفية للنذر والفدائية التي قدمها لمصر .. جول جمال ترك أهله وشبابه كي يلتحق بالدفاع عن مصر .. وكما فعل سليمان الحلبي وغرز خنجره في قلب الجنرال كليبر فان جول جمال زرع زورقه كالخنجر في قلب البارجة الفرنسية جان بار التي كانت تقصف بورسعيد المصرية .. وكان جسده مقبض الخنجر … وكانت هذه أول عملية استشهادية في التاريخ العربي الحديث سجلت باسم ضابط سوري مسيحي لم يعجبه النأي بالنفس .. وسار على خطا زميله سليمان الحلبي الذي لم يعجبه النأي بالنفس ..
واليوم لايريد المصريون الرسميون والاعلاميون المحسوبون على الدولة المصرية وعلى دول النفط العربي الا ان يقولوا لغزة العبارة الشهيرة للساداتيين (الله واحنا مالنا؟) .. وليست لهم الا مهمة واحدة هي ان يكتبوا على قلب كل مصري وفي أحداقه عبارة النأي بالنفس .. وأن غزة قد جنت على نفسها .. وأن حدودنا تنتهي حيث تريد اسرائيل ألا تغضب .. وحيث ترغب أميريكا ان نضع مكاتب الهجرة والجوازات ..
وهؤلاء يكررون بطريقة مخاتلة ومخادعة ماخسروه من أجل فلسطين وفيها يمنون على الفلسطينيين ان مصر دفعت ثمنا باهظا من أجلهم .. وأظن انه علينا أن نقول لهؤلاء الذين يقولون ان مصر دفعت ثمنا باهظا لوقوفها الى جانب العرب والفلسطينيين أن هذه الاسطورة لم تعد مقبولة ان تتردد على أسماعنا .. فالحرب الوحيدة التي خاضتها مصر من أجل فلسطين هي حرب 1948 .. وبعدها لم تخض اي حرب من اجل فلسطين .. فحرب 1956 هوجمت مصر لأنها أرادت استرداد قناة السويس واسترداد حقها وأرضها ولم تهاجم أحدا من أجل فلسطين .. واعتدت عليها اسرائيل وبريطانيا وفرنسا لأن مصر أرادت السيادة على أرضها في قناة السويس ..
وفي حرب 1967 .. لم تهاجم مصر اسرائيل لتحرير فلسطين بل كانت تقول انها ستدافع عن سورية اذا هاجمتها اسرائيل .. ولم تقل انها ستخوض حرب تحرير فلسطين وكان عبد الناصر يقول علنا .. أنا لاأريد أن أبيع الناس الوهم أنني سأحرر فلسطين .. لأنني لست قادرا على ذلك ولكنني لن أترك الاسرائيليين يفعلون مايشاؤون .. ولذلك فان مصرملتزمة بمعاهدة الدفاع العربي المشترك عن سورية .. ومن دون ان تهاجم مصر اسرائيل او تعلن حرب تحرير لفلسطين هاجمتها اسرائيل وكسرت شوكتها وشوكة طموحاتها ..
وفي عام 1973 خاضت مصر آخر حروبها من اجل استعادة أراضيها وليس لاستعادة اي شبر من فلسطين .. ومنذ ذلك اليوم والساسة المصريون لايكفون عن تحملينا عبء الاثم ان مصر دفعت ضريبة الحرب من أجل تحرير فلسطين ..
وللأسف كل الاختراقات التي أحدثتها اسرائيل في العالم العربي كان بمساعدة مصر وغطائها .. وكانت مصر هي الجرافة التي تفتح الطريق أمام الدبابات الاسرائيلية والسفارات الاسرائيلية .. واليوم يأتي وزير الخارجية المصري ليصبح ناطقا باسم نتنياهو .. ويقف الجيش المصري – وهو مرغم على ذلك – على عنق غزة ويغلق الممرات والمعابر والمتنفس .. ويضع ركبته على عنقها فيما اسرائيل كالضبع ينهش بطنها .. وفوق كل هذا يطلع من يسمى شيخ مشايخ سيناء ويتمرجل على الغزاويين ويهدد انه سيذبحهم اذا دخلوا سيناء .. فيما العالم يتوقع من شيخ مشايخ عربي مسلم ان يهدد الاسرائيليين بالذبح ..
اليوم يحتفل الناس بمشهد بائع برتقال مصري شهم يرمي البرتقال على الشاحنات المتجهة الى غزة ويثنون عليه وهو يستحق .. ولكن ليست هذه مصر التي لايخرج منها الا بائع برتقال .. فيما يقول شيخ مشايخ سيناء انه سيذبح الغزاويين فوق ذبح اسرائيل لهم .. وتخلو ساحة التحرير من أي تجمع وتغيب الفعاليات الناصرية غيابا غريبا .. رغم ان حمدين صباحي اعطي منصب الامين العام للقوميين العرب لأنه مصري وعليه أن يحرك الشارع القومي المصري .. ولكنه للأسف لايعرف كيف هي طريقة تحريك الشارع والمشاعر .. ولو كنت مكانه لقدمت استقالتي من هذا المنصب الذي كان يجب ان يحرك الناس والفعاليات الثقافية والاعلامية والفنية .. ويصوب مشاعر الناس ويخلصهم من عقدة حماس وخالد مشعل التي صارت مثل عقدة هزيمة حزيران .. فكل تجربة سياسية مصرية تتحول الى عقدة سلبية او يحولها من يحولها الى عقدة كي تتحكم في السلوك والمشاعر والغرائز ..
اعتقد انه قد آن الاوان لأن ننسى مصر -مؤقتا – مصر التي عرفناها ليست معنا اليوم .. ليس لأن مصر سيئة بل لأنها خضعت لعلمية زرع مخ وبقي قلبها عربيا .. عقلها يشير عليها بما لايريده قلبها .. وقلبها لايطيع ما يريده دماغها الجديد .. ربما كان قلبها ناصريا ولكن عقلها ساداتي اليوم .. ويجب ان نعرب عقلها من جديد لينسجم مع قلبها .. والى حين ذلك علينا ان نتوقف عن الحلم والعيش في رومانسية الزمن الناصري الذي لن يعود في المنظور القريب والمتوسط .. فمصر لن تعود حاليا الى عشر ما كانت عليه في ذاكرتنا وأمانينا طالما ان عقلها لاينسجم مع قلبها ..
أنا ألوم العروبة على غياب مصر لأنها عندما خطفت لم يعمل العروبيون على تنظيفها من اللوثة الساداتية .. ولم يحقنوها بمضادات المورفين لتستعيد نفسها ووعيها وروحها .. ولم نعمل على حماية مصر من اللعبة السيكولوجية الغربية التي شحنت المصريين ضد العروبة وأقنعتهم انهم أقل عروبة من العرب .. وأن العرب والعروبة داء لاخير فيه .. وشحنتهم ضد أحلامهم وطموحاتهم في الستينات ليكونوا دولة عظمى .. فيما أعداؤنا وأعداء مصر عملوا بجد وبلا توقف على تغيير مزاجها وتقديس الساداتية السياسية والنأي بالنفس .. ويبدو ان استرداد مصر لن يكون سهلا وأخشى أن يكون قد تأخر .. لأن الجيل الجديد الذي يسير في الشوراع لايزال يحبنا في قرارة نفسه الان لكنه لم يعرف معنى العروبة .. ولم يتذوق اسم فلسطين ونكهة التحدي .. وهو يقرأ في كتبه ان حدوده شمالا هي اسرائيل .. هذا جيل عمره 50 سنة من النأي بالنفس والبرود الثوري .. وثقافة (احنا حررنا أرضنا بالسلام) .. و (نحن لن نطبع مع الاسرائيليين ولكن لن نعود الى حربهم) .. وحال المصري اليوم تشبه حاله عندما انتقلت مصر من الفاطمية الى معسكر مذهبي آخر ولكنها في ممارستها وهواها فاطمية ورموز الفاطمية في كل شيء فيها من اسم الازهر الى مقامات الحسين والسيدة .. حتى انها تكاد تكون شيعية في حبها للحسين والسيدة زينب .. ومع هذا فانها تعتبر نفسها ضد الشيعة وترفض ان تنسب اليهم وتنخرط في أحلاف أهل السنة .. انه تناقض العقل والقلب من جديد
..
أقول هذا وأنا المحب لمصر .. ولكن لم أعد أطيق ان أحمل مصر اي عبء نفسي أو اخلاقي او عربي .. ولم اعد أطيق انتظارها .. ولم أعد أطيق تصريحات السياسيين فيها وشقاءهم وحرجهم او قسوتهم علينا وهم يحاولون ان يقنعونا انهم يفعلون المستحيل من اجل السلام .. وأنهم تفضلوا علينا ولم يعد بامكانهم ان يقدموا أكثر .. رغم انه بموازين الحرب والسلام فان مصر وقفت ضد اسرائيل 31 سنة فقط (بين 1948 – 1979) وخاضت معها حربا واحدة من أجل فلسطين هي حرب 1948 .. والتزمت النأي بالنفس وخرجت من اي صراع 50 منذ سنة بالتمام والكمال (من 1973 – 2024) ..
على العقل الاستراتيجي العربي ان يفكر بمعادلة عسكرية وسياسية لاتتضمن مصر الى ان نتمكن من استرداد مصر او هي تفكر في استرداد نفسها .. فهي في الأسر النفسي والانفصام السياسي كما هي منفصمة في موقعها الازهري الحسيني وولائها لطريقة مذهبية آخرى .. وهي رهينة الاسر الاقتصادي والاسر الاعلامي .. وهي في سجن لاتقدر على الخروج منه ولاتملك مايكفي من الشجاعة للخروج منه لأن هناك من يقنعها ان خارج السجن ينتظرها العرب ومشاكلهم وعبد الناصر المغامر .. وهي ترى بأم عينها أنها في السجن وترى خارج السجن ينهدم العالم من حولها .. وتنهدم هي نفسها .. وهي مقبلة على مشاكل خاصة بها في قادمات الايام .. وهي ستكون عبئا على نفسها وربما علينا .. فأمامها مستقبل التقسيم الذي يقترب منها من الجنوب حيث تفككت قاعدتها الجغرافية في السودان وتشقق الحائط الغربي في ليبيا الذي كان يحميها غربا .. وسيجف حلقها مع سد النهضة وستكون مشغولة في العقود القادمة فقط لنيل حصتها من ماء النيل ولملمة أشلائها لأن اسرائيل وضعت عينها على سيناء بلدا بديلا للفلسطينيين من غزة اذا انتهت من حربها اليوم دون ان تحقق ذلك ..
مصر ربما تنتظر مغامرة تأتي من الخارج كما أتى سليمان الحلبي يخلصها من حكم الناتو الذي حل محل الجنرال كليبر وصار يتحكم بمصيرها .. وتنتظر جول جمال آخر يدخل خنجره في قلب الغرب الذي يقوم بانزالات اقتصادية وسياسية ومائية على أرض مصر دون ان يوقفه أحد .. تنتظر أبطالا قادمين من مكان ما .. لايحبون ان ينأوا بأنفسهم عنها عندما تحيق بها الاخطار .. ينقذها ويوقظها ويعلمها ان الامم لاتنأى بنفسها عن مأساة الانسان في أخر الكون ..
(سيرياهوم نيوز ١-مدونة سرجون)